أخبارصحيفة البعث

الوحدة .. وصدام المقدمات والنتائج

د. صابر فلحوط
تطرح الذكرى الحادية والستون للحدث الأسطع، والأروع في تاريخنا الحديث، وهو قيام الوحدة بين سورية ومصر، في الثاني والعشرين من شباط 1958، جملة من الأسئلة التي تومئ إلى البون الشاسع والمسافات الفلكية بين حساب العقل، حيث الآمال العريضة، والأحلام الوردية، وحساب البيدر، وما يعتريه من شوك وزوان يطيح بالآمال، ويقزم الطموحات، ويوهن العزائم!.
وعند التقويم الموضوعي للحدث التاريخي الأبرز في القرن العشرين على الصعيد القومي، فلا بد أن نحاول النأي ما أمكن عن التفاؤل المفرط، أو التشاؤم المحبط، مع التشبث بخيوط الأمل الذي تربطنا بمستقبل، حاول جيلنا أن يرسي مداميكه، وها هو يغادر سفينة الحياة قبل أن يرى شواطئ الحلم القومي الذي عاش طوال عمره يعمل له، ويُغنيه، ويُغنيّه..
ولأن معظم ما يكتب عن الوحدة بين سورية ومصر يستهدف الأجيال التي ولدت بعد هذا الحدث القومي الهائل، فلابد من إطلالة خاطفة على الأجواء التي سادت ميدان السياسة قبل قيام الوحدة.
فلقد برز حزب البعث العربي الاشتراكي بعد الجلاء الأغر وتحرر الوطن من الاستعمار الفرنسي كأول بلد عربي في هذا الشرق، حيث تصدّر قيادة الشارع القومي بفضل أمرين اثنين: الأول عقيدة قومية أكدت الأحداث والوقائع صدقها وعظمة قيمها وخلود رسالتها، والثاني قيادة شابة مثّلت الصفاء والنقاء والإرادة الصلبة والتفاني من أجل أهداف الأمة، ولا سيما في أوساط القوات المسلحة والعمال والفلاحين والمثقفين الثوريين.
وبالرغم من الحصارات والمؤامرات والأحلاف الاستعمارية التي أحكمت الطوق على سورية قبل وبعد الثورة السورية الكبرى، ومعركة ميسلون وعشرات الوقائع التي شملت سوح الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وقادت إلى انتصار الجلاء في السابع عشر من نيسان 1946، فقد داهمت بلاد الشام عموماً حزمة من المشاريع الاستعمارية الخطيرة، والتي يأتي في مقدمها حلف بغداد الذي ضم العراق الملكي البريطاني، وتركيا العثمانية وباكستان، ثم مشروع ايزنهاور الذي جاء دعماً للكيان الصهيوني الذي أرست أمريكا والغرب الاستعماري دعائمه عام 1948 بعد النكبة الكبرى.
في هذه الأجواء العاصفة المزدحمة بالمؤامرات والأحلاف برزت من عتمة وادي النيل شعلة ضوء قومي حملها الضباط الأحرار في مصر بقيادة القائد جمال عبد الناصر في 23 تموز عام 1953 الذي رأى في حزب البعث السند والدعم، كما رأى فيه البعث والشعب في سورية الرمز والأمل والزعيم الجدير بحمل راية الوحدة.
ولم تمهل الأحداث القائد عبد الناصر، فقد شنت بريطانيا وفرنسا والصهيونية العدوان الثلاثي على مصر كرد على تأميم قناة السويس وإعادتها للشعب العربي المصري.
وقد وجدت سورية فرصة رائعة في تأكيد التزامها القومي المطلق مع ثورة مصر العربية، وتطوع شباب سورية للدفاع عن مصر، وقدموا الشهداء العظماء أمثال الشهيد جول جمال الذي ارتقى دفاعاً عن مصر على خطا الشهيد سليمان الحلبي الذي ارتحل إلى القاهرة إبان الاستعمار البريطاني ليقتل الجنرال الانكليزي كليبر في واقعة مشهورة في تاريخ الدفاع المشترك بين سورية ومصر..
وقد قدّم حزب البعث العربي الاشتراكي، وبتأييد وإسناد كاملين من الشعب والجيش وجميع الشرفاء، وهم كل جماهيرنا، على حل تنظيمه في القطر السوري كرمى لعيني الوحدة، وقيام دولتها التي وصفها رئيسها عبد الناصر “دولة جديدة في هذا الشرق تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تشد أزر الصديق، ترد كيد العدو، توفر الأمن والسلام لها ولغيرها، وللبشر جميعاً”.
وقد أرعب قيام الجمهورية العربية المتحدة أعداء الأمة، وفي المقدمة الكيان الصهيوني والرجعية العربية.
وقد بكرت إسرائيل بحشد داعميها من الفرنسيين والانكليز للقيام بعدوان السويس، كما قامت الرجعية النفطية، بإعداد مؤامرة استهدفت اغتيال الرئيس عبد الناصر، وهو في الطائرة في سماء دمشق قادماً لتوقيع ميثاق الوحدة.. كما حاول الإخوان المسلمون اغتيال زعيم الوحدة، وهو يحشد الجماهير لمواجهة مؤامرات الرجعية والصهيونية ضد المسيرة القومية، حيث أُطلق النار على الزعيم، وهو يخطب بين عشرات الآلاف من الجماهير العربية المصرية، ولعل جيلنا يذكر كيف واجه الزعيم الرصاص بقوله: “أيها الإخوة، قفوا في أماكنكم، أيها الرجال الشجعان، فإذا مات جمال فكل واحد منكم جمال”، وتمكنت الوحدة بالرغم من عمرها القصير (1958 – 1961) أن ترسخ بصمتها المتوهجة على خريطة العالم، حيث أصبح زعيمها نجماً ساطعاً من نجوم حركة عدم الانحياز التي تضم شعوب آسيا وأمريكا اللاتينية وافريقيا، إلى جانب الزعماء: نهرو، وتيتو، وسوكارنو، وكاسترو.
كما استطاع هذا الزعيم الاستثنائي أن ينتقل بشعبنا في مصر من وهدة التخلف “الملكي، والقهر البريطاني، سنوات طوال” إلى أنبل مراتب الكرامة، والعزة، وامتلاك إرادة الفعل تحت شعار الزعيم “ارفع رأسك يا
أخي”، أما مصر شريكتنا في صلات الرحم القومي والدم التشريني، فهل يكفي عتاب المحب ليغفر تقصير الأهل والرفاق، أم نكتفي بإشارة الشاعر الأخطل الصغير، بشارة الخوري، باسم بلاد الشام:
من مبلغ مصر عنّا ما نكابده إن العروبة في أعناقنا ذمم
ركنان للشرق لم تفصم عرىً لهما هم نحن إن رزئت يوماً ونحن هم
مستذكرين قولة شاعر النيل حافظ إبراهيم:
لمصر أم لربوع الشام تنتسب؟ هنا العلا وهناك المجد والحسب
هذي يدي عن بني مصر تصافحكم فصافحوها تصافح نفسها العرب
إن سورية العربية المرهونة كل ذرة من ترابها، وكل قطرة من دماء شبابها للعروبة غابراً وحاضراً ومستقبلاً، والتي خاضت حربها الوطنية العظمى الظافرة مع الأشقاء والأصدقاء، في أطول حرب في التاريخ الحديث، تجدد اليوم، وكما كل يوم، تمسكها حتى آخر حدود النبض بالعروبة الحضارية والقضية الجوهرية لنضال الأمة فلسطين، غفارةً للأشقاء العائدين إليها بقلب وضمير وموقف عروبي صادق وشعارها على الدوام قول الشاعر القومي:
وإن أنبل عفوٍ أنت مانحه عفو الذبيح عن السيف الذي ذبحا
تحية الإكبار والإجلال لروح الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في ذكراه الغالية..
وتحية لأرواح شهداء جيشنا الأسطوري الذين تآخت دماؤهم مع دماء إخوتهم في وادي النيل خلال حرب تشرين التحريرية.
وكل التحايا على الدوام لشعبنا الصامد، وجيشنا الباسل وقيادتنا التي أبدعت وانتصرت في ميادين السياسة والسلاح، وأسهمت في بناء عالم جديد هويته كرامة الشعوب وسيادتها واستقلال قرارها.