من وحي الوحدة السورية المصرية

الدكتور سليم بركات
دكتور في جامعة دمشق
عندما بادرتُ بالكتابة عن الوحدة السورية المصرية (الجمهورية العربية المتحدة) واجهني نوعان من ردود الفعل، الأول يقول إن هذه الوحدة حقيقة قائمة وليست تجربة، لأن التجربة تعني (اختبار، معاينة، محنة) والوحدة ليست كذلك. والثاني يقول إن هذه الوحدة لم تلقَ نصيبها الكافي من الدراسة الموضوعية بما يتلاءم ومكانتها في الحياة العربية، كحركة نضالية وحدوية ما علينا إلا الاستفادة من دروسها بعد انتكاستها.
الواقع كنتُ ميالاً للكتابة في المجال الثاني، لأنني أشعر بأن هذه الوحدة الرائدة قد ظُلمت، سواء أكان ذلك من الباحثين الذين أيّدوها، أم كان ذلك من جانب الباحثين الذين انتقدوها، فكم من الوقائع تذكر عنها بغير تدقيق، وكم من الأحكام السطحية التي تطلق في تقويمها من دون تصويب، ولاسيما فيما يتعلق بأسباب انهيارها. والإشكالية في كلّ هذا هي أن ننظر لهذه الوحدة على أنها خطوة جبارة في الطريق نحو مستقبل عربي مشرق، وخاصة في مثل هذا الانحطاط الذي يخيّم على الحياة العربية في هذه المرحلة والذي لا يجاريه انحطاط في التاريخ العربي.

حكم خاطئ
من الأحكام الشائعة التي تطلق على الوحدة السورية المصرية أنها ولدت ميتة، والحقيقة تقول إنه حكم خاطئ ومبالغ فيه، ولاسيما أن التوغل في أعماق التاريخ العربي وحقائق الجغرافيا العربية يثبت الارتباط الكبير بين الأمن العربي السوري والأمن العربي المصري، بغضّ النظر عن إرهاصات التفاعل بين القطرين الشقيقين عبر التاريخ وفي معارك الاستقلال إلى أن جاءت هذه الوحدة مفتاحاً لعهد جديد، ولمولد فجر عربي أصيل، أكان ذلك على المستوى الجماهيري، أم كان ذلك على مستوى النخبة التي أوجدت هذه الوحدة بعد بروز الوجه العربي للثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر، وبعد بروز حزب البعث العربي الاشتراكي ممثلاً للثورة العربية وأهدافها في الوحدة والحرية والاشتراكية.
تعدّ المعارك التي خاضتها الأمة العربية ضد الأحلاف الاستعمارية في خمسينات القرن المنصرم وعلى رأسها حلف بغداد عام 1955، خير شاهد على أسباب قيام هذه الوحدة، وخاصة في سورية حيث المعارك الفكرية داخل مجلس النواب السوري بين نواب حزب البعث العربي الاشتراكي من جهة، وبين النواب الآخرين الذين يؤيدون مواقف السلطة السورية آنذاك، والتي لم تتخذ موقفاً حاسماً في مواجهة هذه الأحلاف من جهة أخرى. معارك انعكست على التطورات اللاحقة في العلاقة الرسمية والشعبية بين القطرين الشقيقين سورية ومصر، مما أدى إلى توقيع بيان مشترك في مجال السياسة الخارجية تضمن معارضة الأحلاف الغربية الممتدة على صعيد المنطقة العربية، وتبع ذلك توقيع معاهدة دفاع مشترك. ومع تطور الأحداث حدث التفاعل بين القطرين على المستويين الرسمي والجماهيري ليكون اشتراط حزب البعث العربي الاشتراكي على المشاركة في الحكومة السورية آنذاك في أن تتعهد هذه الحكومة ببدء المحادثات مع مصر العربية لإقامة وحدة بين البلدين، وبالتالي تحقّقت مطالب الحزب بتشكيل حكومة سورية جديدة تولى فيها حزب البعث العربي الاشتراكي وزارتين هما وزارتا الخارجية والاقتصاد، الأمر الذي أدى فيما بعد إلى وضع مشروع للوحدة الاتحادية (الفيدرالية) بين سورية ومصر، لكن هذا المشروع أُجّل بسبب ملابسات العدوان الثلاثي (فرنسا، بريطانيا، إسرائيل) على مصر في عام 1956، وبعد أن أعلن جمال عبد الناصر خطابه التاريخي في تموز عام 1956، والذي تضمن قراره بتأميم قناة السويس، وإشادته بموقف سورية القومي التاريخي الذي طالب بالاتحاد مع مصر رفضاً للعدوان وتدعيماً لمبادئ الكرامة العربية في مواجهة أعدائها.

المنطلق القومي
استجابت الجماهير العربية في سورية ومن منطلق قومي عربي لنداء جمال عبد الناصر، وتجمّعت في آب عام 1956، بأعداد هائلة في الملعب البلدي بدمشق، ودوّى هتافها (علم واحد، شعب واحد، وطن واحد..)، وتبع ذلك مسيرات عمّت المحافظات السورية استنكاراً للعدوان الثلاثي الذي بدأ على مصر، وما إن بدأت طائرات العدوان تضرب المدن المصرية، وتستهدف محطة إرسال إذاعة صوت العرب، حتى قامت إذاعة دمشق بهذا الدور لصوت العرب معلنة (هنا القاهرة هنا صوت العرب من دمشق)، وأصرّ ضباط الجيش العربي السوري على خوض المعركة إلى جانب أشقائهم من الضباط المصريين، واستشهد الضابط السوري جول جمال في بحيرة (البرولس)، وقام سلاح المهندسين السوريين بتدمير محطات ضخ النفط التي تنقل نفط العراق إلى أوروبا عبر المتوسط، ورفضت الحكومة السورية طلب الحكومة البريطانية إصلاح هذه المحطات إلا بعد انسحاب القوات البريطانية من الأراضي المصرية.
في إطار التحرك الغربي المعادي للحركة القومية العربية بدأت تركيا المنضمّة إلى حلف بغداد آنذاك بإرسال قواتها إلى الحدود السورية في أيلول عام 1957، بحجة القيام بمناورات عسكرية، وهدّدت بالتدخل في سورية، وما إن كان هذا التهديد التركي حتى أمر جمال عبد الناصر الأسطول المصري بالتوجّه إلى ميناء اللاذقية لمساندة القوات السورية في مواجهة التهديدات التركية. وفي تشرين من العام ذاته، وصل إلى سورية وفد برلماني مصري ليعقد جلسة مشتركة مع مجلس النواب السوري لتدارس ما يجري من أحداث، وكانت النتيجة إعلان رغبة الشعب العربي في سورية ومصر في إقامة الوحدة بين البلدين الشقيقين، وكانت دعوة الحكومتين السورية والمصرية إلى الدخول فوراً في مباحثات مشتركة لهذا الغرض، وتبع ذلك توجّه وفد برلماني سوري إلى مصر لحضور اجتماع مجلس الأمة المصري، وبالتالي كانت مظاهر التفاعل الوحدوي بين القطرين الشقيقين قد بدأت بالفعل. وكلّ ذلك يؤكد أن القرار الوحدوي الذي أُعلن عنه في شباط عام 1958، لم يكن قراراً عاطفياً متعجلاً، وإنما كان نتيجة طبيعية لتطورات الأحداث وفي مواجهة التحديات الهائلة التي استدعاها النضال العربي الفعلي في مواجهة أعداء الأمة العربية.

الوحدة السورية المصرية
أُعلنت الوحدة السورية المصرية في 22 شباط عام 1958 وتحقّقت للشعب العربي أحلامه، وكان لعبد الناصر خطابه التاريخي الذي عبّر من خلاله عن أنه يعيش أسعد لحظات حياته التاريخية بقيام هذه الوحدة، كيف لا وسورية بالنسبة له هي (قلب العروبة النابض، سورية التي حملت دائماً راية القومية العربية، سورية التي كانت متفاعلة دائماً من عميق القلب مع العرب في كل مكان). إنه يوم مشهود من أيام العمر، إنه يوم عظيم من تاريخ الأمة العربية- بحسب تعبير شكري القوتلي.
بعد إعلان الوحدة بأربعة أيام توجّه رئيس أركان الجيش العربي السوري إلى مطار المزة بدمشق لاستقبال رئيس أركان الجيش العربي المصري، وكانت المفاجأة أن جمال عبد الناصر هو من كان في الطائرة، وما إن غادرها متوجهاً إلى بيت شكري القوتلي حتى خرجت دمشق لاستقباله، ومن ثم عمّت المسيرات المحافظات السورية بأكملها، لكن وللأسف لم تستمر هذه الوحدة طويلاً حتى سقطت بانقلاب عسكري في أيلول عام 1961، وكان خلف هذا الانقلاب أعداء الأمة العربية من التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي.
الإنجازات الوحدوية
وبغضّ النظر عن السلبيات التي رافقت سنوات الوحدة من عام 1958 إلى عام 1961، عام الانقلاب على الوحدة، فإن الإنجازات الوحدوية كانت في مستوى الطموح الجماهيري الذي تناضل الجماهير العربية من أجل تحقيقه. ومع أن الجهود النقدية كانت منصبّة على سلبيات هذه الوحدة وعلى أسباب انهيارها إلا أن إنجازاتها كانت ضخمة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تحصين الأمن القومي العربي في مواجهة العدو الصهيوني، من خلال تشكيل ثلاثة جيوش، الجيش الأول هو الجيش السوري، والجيشان الثاني والثالث هما الجيش المصري، تسمية مازالت مستمرة حتى يومنا هذا. وبهذا التشكيل تجسّد المعنى العميق للتغيير الاستراتيجي الذي أحدثته الوحدة السورية المصرية (الجمهورية العربية المتحدة) في دنيا العرب على مستوى حركة الثورة العربية، الذي عجّل به، مناخ الوحدة، ثورة الشعب العربي ضد الأنظمة الملكية الموالية للغرب الامبريالي، وعلى رأسها ثورة تموز في العراق عام 1958 بعد أقل من نصف سنة على قيام هذه الوحدة. هذا إضافة إلى تسوية الصراعات القائمة وقتها في لبنان بعد دخول الأسطول السادس إلى الأراضي اللبنانية وهو يستهدف هذه الوحدة، ومنها الإنجاز الاقتصادي العربي الذي أحدث التغييرات المؤسسيّة الاقتصادية الجذرية، التي تركت بصماتها على الحياة الاجتماعية العربية من خلال هذه الوحدة قبل أحداث الانفصال في عام 1961، ويأتي في طليعة هذه الإنجازات الخطة الخمسية للتنمية الاقتصادية التي حلّت محل الخطط السابقة البعيدة كل البعد عن التنفيذ، ومنها قانون الإصلاح الزراعي والقرارات الاشتراكية التي ربطت الجماهير العربية بقضيتها القومية، ولاسيما جماهير الفلاحين الكادحة التي تحرّرت من العبودية الجاثمة على قلوب هذه الجماهير منذ عهود طويلة، ومنها التشريعات الوحدوية المشتركة على مستوى الجمهورية والتي مازالت قائمة حتى يومنا هذا. والأهم من كل هذا هو دور هذه الوحدة في مواجهة التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي والذي ما كان لينجح في تآمره عليها لو كانت المناعة في جسد هذه الوحدة أقوى مما كانت عليه. الأمر الذي يدفعنا إلى التعامل مع القضية الوحدوية من خلال تحصين هذه المناعة، ومن منظور وحدوي لا من منظور اقليمي انفصالي، ومن منظور مدروس لا من منظور التجربة. ولا نبالغ إذا قلنا: لو تكررت ظروف الوحدة السورية المصرية اليوم لما كانت هذه التحديات التي تواجه الأمة العربية الواحدة من قبل التحالف الأمريكي الإسرائيلي الرجعي الإرهابي ومن لفّ لفه.
بقي أن نقول: أليست الوحدة العربية سبيل العرب إلى المزيد من تعميق الفكر القومي العربي القادر على اتخاذ القرار المناسب للمضي في طريق النضال الشاق لحماية الوطن العربي من العابثين فيه؟. ما أحوج الأقطار العربية إلى المواقف الوحدوية لمواجهة الكوارث التي حلّت وتحلّ بالوطن العربي تحت شعار ما يُسمّى بالربيع العربي والذي سبّب الخراب، والدمار، وهدر الدماء، ما أحوج العرب إلى الارتقاء بالموقف العربي إلى مستوى طموح عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة آنذاك الذي نادى العربي قائلاً (قف كما يقف الرجال، دع العواطف جانباً، دع الإحساس بالمرارة، تذكر أنك عربي حر، تنتمي إلى أمة عربية واحدة يتربّص بها الأعداء)، ولاسيما في هذه المرحلة التي يواجه فيها العرب أزمة تهيب بكل إنسان عربي أن يرتقي إلى مستوى المواجهة والمقاومة، وهل الوحدة العربية سوى إرادة شعب ومقاومة.