البعــــــــث وعبـــد الناصـــــــــر وتجـــــــــربة النضــــــــال الحـــــــزبي
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
في الذكرى الحادية والستين لقيام الوحدة بين مصر وسورية عام 1958 هناك قضايا معينة برزت خلال المحادثات التي مهدت لقيام الوحدة، أو خلال قيام دولة الوحدة، أو بعد جريمة الانفصال في 28 أيلول 1961. ومن بين هذه القضايا وأكثرها أهمية على الصعيد العملي كانت مسألة الموقف من الأحزاب السياسية في دولة الوحدة، ومسألة العلاقة بين البعث وعبد الناصر في ضوء تلك التجربة الوحدوية، ومن ثم التوجهات التي حكمت السلوك السياسي بعد ذلك، والتي أدت إلى ظهور الحركة الناصرية لتعبّر عن نهج قومي موازٍ للنهج الذي يمثله حزب البعث العربي الاشتراكي.
دعونا نوضح أولاً أن الرفاق البعثيين في سورية كانوا المبادرين والساعين لتحقيق الوحدة، وأنهم كانوا يأملون في أن تكون دولة الوحدة ممثلة بالجمهورية العربية المتحدة نواة وحدة عربية شاملة. وبالطبع، فإن أيّ واحدٍ منا يقدّر بأنه لكي تكون دولة الوحدة الأولى نواة للوحدة الشاملة فإنه لا بدّ من وجود طلائع ثورية عربية تناضل من أجل هذا الهدف في جميع الأقطار العربية، وكان حزب البعث العربي الاشتراكي أبرز هذه الطلائع الثورية، لكنّ شرطاً طرحه عبد الناصر لإنجاز الوحدة ويتمثل في حل الأحزاب في الإقليم الشمالي كان لا بدّ وأن يعكس تأثيره بدرجة أو بأخرى على هذا التصوّر، خاصة إذا افترضنا بأنّ حلّ الأحزاب ومنها حزب البعث سيكون مطلباً مواكباً لكل خطوة وحدوية لاحقة!. ومن هنا يمكن القول بأن شرط حل الأحزاب في سورية لم يكن شرطاً سهلاً، بل إن هذا الشرط بدا في لحظته غريباً ومستغرباً إلى الحد الذي جعل منظمة الحزب في مصر، وهي منظمة كانت مكملة من الرفاق العرب المصريين، ترفض هذا الشرط حتى حين قبلت به قيادة الحزب في سورية. لكن هذا الشرط جرى الأخذ به كثمن لا بدّ منه لتحقيق الخطوة الوحدوية الأولى. وقد شمل الحلّ في ذلك الحين عدا تنظيم الحزب في سورية منظمة الحزب في مصر ومنظمة الحزب في قطاع غزة. لكن حلّ منظمات الحزب داخل الجمهورية العربية المتحدة لم يعن وقف النشاط الحزبي للبعثيين بشكل عام. فالتنظيم التابع للقطر الأردني، والذي كان موضع ملاحقة في الأردن، استمر في نشاطه داخل دولة الوحدة، وكذلك هو الحال بالنسبة للرفاق اللاجئين من القطر العراقي، وكانت للحزب منظمة في مصر للرفاق البعثيين من الطلاب العرب الدارسين في جامعات الإقليم الجنوبي، وكذلك في الإقليم الشمالي. وهنا قد يتساءل البعض: كيف يمكن التوفيق بين حلّ الحزب في الجمهورية العربية المتحدة وبين استمرار نشاط الرفاق البعثيين من مختلف الأقطار العربية داخل نطاق الجمهورية؟.
أسباب موضوعية
ولكي تكون إجابتنا على هذا السؤال واضحة، دعونا نقول بأن شرط عبد الناصر لحل الأحزاب في دولة الوحدة كانت له أسبابه الموضوعية أيضاً، وأن عبد الناصر –وإن جعل مطلب حل الأحزاب شرطاً للوحدة– إلا أنه راح يبحث عن بديل تنظيمي جامع، وجرّب من أجل ذلك أكثر من سبيل كما سنرى.
قد يستغرب البعض وجهة النظر التي نطرحها هنا، ولكني أقول لهذا البعض إنني كنت واحداً من الرفاق الذين تمردوا على قرار حل الحزب، وأسهموا في إعادة بناء منظمة الحزب في قطاع غزة مخالفين قرار الحل الصادر عن القيادة القومية، والذي تراجعت عنه القيادة في الأشهر الأخيرة السابقة لواقعة الانفصال، حيث وجدت في التنظيم المتمرد على قرار الحل قاعدة عريضة تردف بنية الحزب في قطاع غزة.
ولكي نستوعب المشكلة ونفهم أبعادها من وجهة نظر عبد الناصر بالذات، ولكي نعرف كيف كان جمال عبد الناصر يحاول التصرف محاولاً التوفيق بين الظروف في القطرين، وما يحيط به من اعتبارات، لا بد لنا من التسليم بأن ظروفاً معينة كانت تحيط بقيادة الثورة في مصر آنذاك، ولم تتضح معالمها للناس بجلاء إلا بعد زمن، أو لنقل بعد وفاة جمال عبد الناصر التي جاءت مفاجئة في 28 أيلول 1970، حيث رأينا كيف أن الضبط الناصري للمسار في مصر قد انهار بعد تولي السادات للحكم، وكيف أن مصر تعاني حتى الآن من مشكلة عدم وجود تنظيم حزبي قومي وحدوي ثوري في مصر يكون بمستوى طموح الجماهير العربية.
لقد اعتاد الناس أن ينظروا إلى ثورة 23 تموز في مصر من زاوية جمال عبد الناصر، ومن زاوية طموحاته وتوجهاته القومية وإنجازاته وقدرته على استقطاب الجماهير، ولكن هذه النظرة لكي تكون واقعية وموضوعية، كان يجب أن تنظر إلى وضع الثورة في مصر من ثلاث زوايا: الأولى تتمثل في بنية مجلس قيادة الثورة في مصر، أو ما يعرف بقيادة تنظيم الضباط الأحرار. والثانية تتمثل في وضع الأحزاب السياسية في مصر وموقفها من الثورة وموقف الثورة منها. والثالثة تتمثل في الأجهزة الإدارية للدولة المصرية، والتي هي الأداة التنفيذية للسياسات التي يرسمها مجلس قيادة الثورة أو الرئاسة.
حين ننظر إلى الأمور من هذه الزوايا الثلاث مجتمعة يصير بوسعنا أن نفهم حقيقة ما حدث، وأيلولة ما حدث. فمجلس قيادة الثورة كان يعبر عن اتجاهات متعددة تتراوح بين اليمين واليسار، وكانت قراراته بالمحصلة قائمة على التوفيق بين هذه الاتجاهات. وأما الأحزاب السياسية في مصر، والتي اختبرتها هذه القيادة بعد الثورة، وقبل أن يبدأ الاحتكاك بينها وبين التيار القومي في المشرق العربي، خاصة بحزب البعث العربي الاشتراكي، فهي أحزاب مصر الفتاة والوفد وجماعة “الإخوان المسلمين”. وربما كان بوسعنا إضافة الحزب الشيوعي المصري إليها. وقد فشلت محاولة قيادة الثورة للتعاون مع بعض هذه الأحزاب، ما دفعها إلى حل الأحزاب منذ وقت مبكر. وحين ننظر إلى الجهاز الإداري للدولة المصرية، والذي يفترض أن يزوّد قيادة الثورة بالمعلومات، وأن ينفذ السياسات التي يعتمدها المجلس، سنجد أنه استمرار للجهاز الإداري الذي كان قائماً في عهد النظام الملكي. ولم يكن ممكناً تعديل أوضاع هذا الجهاز بشكل جذري إلا بالضبط من أعلى، أو بغرس بذور تمثل التوجه القومي في المواقع المؤثرة على الرأي العام خاصة، وفي بقية المؤسسات الأخرى على أمل أن يأتي زمن يحدث فيه التطور بشكل تدريجي.
إن استجابة القيادة في مصر لمطلب إقامة الوحدة بين القطرين عام 1958 كان يقتضي أحد أمرين لا ثالث لهما بصدد الأحزاب السياسية: إمّا أن تُحلّ الأحزاب في الإقليم الشمالي أسوة بالوضع القائم في الإقليم الجنوبي، أو أن يسمح بحرية تنظيم الأحزاب في مصر. والسماح بحرية تنظيم الأحزاب في مصر لم يكن يخلو حتى ذلك الحين من احتمالات تغلب جماعة “الإخوان المسلمين” الأكثر تجذراً على الأحزاب الأخرى. وعموماً كان التيار القومي، وإن وجدت نواته في منظمة حزب البعث في مصر، لا يزال تنظيمه محدوداً. ومن هنا نفهم منطق عبد الناصر في بحثه عن بديل بعد حل الأحزاب في الإقليم الشمالي. لقد حاول إيجاد هذا البديل خلال عهد الوحدة من خلال تجربة الاتحاد القومي القائم على الانتخاب من القاعدة الشعبية مباشرة. ومثل هذه التجربة قد تكون منطقية في حالة وجود بنية تنظيمية قويّة للتيار القومي الوحدوي، لكنها قد تقود إلى نتائج معاكسة في بعض الحالات. لقد طبقت هذه التجربة أيضاً في قطاع غزة، وأذكر أن عدداً لا يستهان به من الرفاق البعثيين قد فازوا في انتخابات الاتحاد القومي. ولكن ماذا بعد هذا؟. في الواقع أن تجربة الاتحاد القومي لم تكن كافية لمعالجة مسألة الفراغ السياسي الناجم عن حل الأحزاب. فالحلقة المفقودة تظل متمثلة في غياب التنظيم الشعبي على مستوى الجماهير والذي يفترض أن يكون الأساس الذي يرفد التجربة.
إن الحقيقة التي يجب ذكرها في هذا السياق هي أن الصيغة التي طبّقت في دولة الوحدة تجاه الأحزاب السياسية وقع عبؤها على التيار القومي وحده، وأدت إلى نتيجة معاكسة. ففي قطاع غزة مثلاً، حيث جرى حل منظمة الحزب، كانت جماعة “الإخوان المسلمين” مستمرة في نشاطها التنظيمي الذي هو بالنسبة للسلطة سرّي ولكنه بالنسبة للمواطنين بشكل عام أكثر من علني. وكذلك هو الحال بالنسبة للحزب الشيوعي. وحتى في الإقليم الشمالي أي سورية فإن واضع كتاب “الإخوان المسلمون– نشأة مشبوهة وتاريخ أسود” يقول بأنه في عهد الوحدة المصرية – السورية انتقل حزب الإخوان إلى مرحلة العمل السرّي، حيث ساهم بدور كبير في ضرب الوحدة عام 1961 ثم شارك في حكومة الانفصال وكان الدعامة الأساسية لها حتى قيام ثورة 8 آذار 1963. وفي كتابه “الإخوان وعبد الناصر” يبيّن عبد الله إمام كيف أن “الإخوان المسلمين” في مصر كانوا قد بدأوا إعادة تنشيط تنظيمهم السري عام 1957، وكيف أنهم عملوا على توسيع هذا التنظيم خلال عهد الوحدة وبعد الانفصال وصولاً إلى محاولة السيطرة على السلطة في مصر عام 1965.
إن هذا الوضع يعني بالمحصلة أن التيار القومي المحظور عليه أن ينشط تنظيمياً ستتراجع قوته أمام التيارات الفكرية الأخرى. وهذا بالضبط ما حفزنا في قطاع غزة على التمرد على قرار حل الحزب والشروع في إعادة بناء التنظيم في القطاع، وهو ما حاولت السلطات محاصرته باعتبار أنها معنية بتطبيق السياسة المقررة.
طعنة الانفصال
لقد تبيّن خطأ هذه السياسة مع وقوع الانفصال عام 1961. وتجربتي في هذا السياق تكفي لتوضيح الموقف. فقد كنت أريد السفر إلى القاهرة للالتحاق بالدراسة الجامعية، لكن السلطة المعنية رفضت، ولم تفلح كل محاولاتي للتغلب على هذا الرفض. وكانت محاولتي الأخيرة قد تحددت لها للصدفة صبيحة يوم 28 أيلول، حيث وعدني أستاذ مصري لي بمرافقتي إلى مدير التربية لعله بتدخله ينهي هذا الحظر. وذهبت إلى مدرسة فلسطين الثانوية في غزة لمقابلته ومرافقته، وحين وصلت لفت انتباهي أن المعلمين يتجمعون حول الراديو في غرفة المعلمين، بينما الطلاب في صفوفهم في حالة سكون. وسرعان ما عرفت ما يجري. إنه الانفصال. غادرت المدرسة متخلياً عن الموعد والوعد بعد وقوع هذه الطعنة، ورحت أمشي في شارع عمر المختار مترنحاً حتى وصلت إلى دوار الشجاعية. هناك كانت المفاجأة: الرفاق البعثيون يقودون الجماهير القادمة من المعسكرات الوسطى إلى مدينة غزة في تظاهرة عارمة تهتف للوحدة ولعبد الناصر. لقد قطعوا أكثر من تسعة كيلومترات مشياً على الأقدام وصولاً إلى المدينة، بينما كانت المدينة نفسها لا تزال غائبة عن الحدث!.
وقفت أتابع الرفاق والسؤال يلحّ عليّ: كيف يمكن التوفيق بين هذا المشهد وبين الصمت والسكون الذي سيطر على المدينة نفسها؟. لو لم يقم الرفاق بقيادة الجماهير أكانت هذه المسيرة تنتظم وتقطع كل هذه المسافة إلى المدينة، بينما المدينة نفسها في حالة ذهول؟. وبينما كنت أفكر على هذا النحو لفت انتباهي أن الضابط الذي يمنعني من السفر يقف بجواري. التفت إليّ وقال: ما بك تقف متفرجاً؟ قلت له: يشغلني التفكير بما يحدث وبالثمن الكبير والفظيع الذي ندفعه اليوم. إنها الوحدة تتعرض للطعن، أي إنه أملنا الأغلى هو الذي طعن. قال لي: دعك من هذا الآن. بوسعك أن تنضم إلى الرفاق وتعال صباح غد لأخذ جواز السفر والتوجه إلى القاهرة. وهذا ما حدث في اليوم التالي بالفعل ولكن بعد أن كنا قد تلقينا الطعنة.
إن هذا المشهد في حدّ ذاته وما فيه من تلقائية في السلوك تجاه الأحداث يبيّن كم كانت المسافة بين “الطالب والمطلوب” ضيقة، لكن هذه المسافة الضيقة لم تحل دون تلقي طعنة قتلت أعظم حلم لأجيالنا العربية في أن تتحقق الوحدة الشاملة بدءاً من إقامة الجمهورية العربية المتحدة. والمشكلة هنا –كما هو واضح– أنه من السهل أن تتخذ قرارات تتعلق بسلوكك ولكنه ليس من السهل إطلاقاً أن تمنع القوى المناهضة لك من أن تواصل تآمرها عليك وتربّصها بك.
هذه الطعنة التي وجهت لأغلى إنجاز حققه النضال العربي القومي خلال القرن العشرين كان لا بد وأن تترك تأثيرها على قناعة عبد الناصر القائلة بأنه لا بد من تنظيم قومي لخدمة الأهداف القومية. ومن يرصد قراراته بعد ذلك والخطوات التي اتخذها وصولاً إلى الدعوة لبناء الحركة العربية الواحدة لا بد وأن يخرج بهذا الاستنتاج. وإلى من يظنون أن هذا التطور في تفكيره جاء بمعزل عن علاقته التفاعلية مع حزب البعث العربي الاشتراكي أكتفي هنا بأن أورد واقعة واحدة، وهي أنه في يوم 7 نيسان عام 1962 أي بعد أشهر من الانفصال كان احتفالنا بذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في قاعة نقابة الصحفيين بميدان سليمان بالقاهرة. وإذا ظن البعض أن اختلاف عبد الناصر مع بعض قيادات الحزب مما عرقل محادثات الوحدة الثلاثية قد أدى إلى القطيعة بين عبد الناصر والبعث، فإنني سأورد واقعة حصلت بعد هذا التطور المؤسف في العلاقات: لقد علمت بتنظيم معسكر صيفي للطلاب الوافدين في الإسكندرية، فأردت أن ألتحق به. وحين ذهبت إلى نادي الوافدين التابع للاتحاد الاشتراكي العربي الذي كان عبد الناصر قد شكله، وتمثلت أهدافه في الحرية والاشتراكية والوحدة لتتطابق مع أهداف البعث القومية، كانت المفاجأة أن أجد مدير هذا النادي هو الرفيق الدكتور علي مختار أمين منظمة الحزب في مصر، وهي المنظمة المصرية العربية التي كانت قد اعترضت على قرار حل الأحزاب عند طرحه في محادثات الوحدة. وهكذا قدر لي أن أجلس مع الرفيق علي مختار وأن أتعرف عليه عن قرب، والأهم أن أجده في موقع كلفته به قيادة عبد الناصر في السعي لتطوير بنية التنظيم القومي في مصر.