الثقافتان.. العالمة والعامة!
حسن حميد
الآن أتذكر مدونة الألماني الفذ غوته التي عنونها بـ “فاوست”، وما فيها من ثنائيات عجيبة تدور حول الحياة والموت، والفضيلة والدّناسة، والشهوات والعفة، والكبرياء والدونية، والرضا والسخط، والمكانة والوضاعة، والخسارة والربح، والمادي الخشن والروحي الرهيف..
أتذكر ما فيها من تحالف عجيب لا يخطر ببال الذئاب أو ببال الثعالب، حصل ما بين فاوست ومنغيستو ممثل الشيطان، أو قل الشيطان نفسه ولا تبالِ، وجوهر التحالف أن يبيع فاوست روحه، بعد موته، إلى الشيطان أو ممثله “منغيستو” لقاء أن يتمتع بلذاذات الحياة كلّها، وأن ينال المعرفة المطلقة، ولأن التحالف، منذ بدايته، لا يقوم على أرضية صلبة، وإنما على أرضية احتمال أو سؤال، فإن هذه الثنائية ظلّت داخل مدونة غوته احتمالاً وسؤالاً، ولكن ما فيهما من جولان ونشدان لكليهما من ظفر بما أراد هو لبابة الأمر وجوهره، وهو ما دعا كل من قرأ هذه المدونة إلى الوقوع في مربع الغرابة والدهشة، لأن الإنسان لا يصير إنساناً حين يبيع روحه أولاً، وحين يبيع جوهر حياته ثانياً (وهذا الجوهر مركوز إلى العمل والسعي الذي ينقل الحياة من حال إلى حال، ولا سيما حال المفاضلة ما بين الثواب والعقاب)، وما ينتظر هذا الإنسان في خواتيم الحياة وبداية الموت من سؤال جوهري فحواه: أين روحك أولاً، ثم أين هو عملك الذي كان ثمرة لتفكيرك وسلوكك ثانياً، وكل هذا من جهة الإنسان، أما من جهة “الشيطان” فالسؤال الحاسم يتبدى في ما يحمله السؤال من دهشة: وما حاجة “الشيطان” لروح آدمي بعد أن صار إلى ضفة “الكفر” أو ضفة التمرد؟! ولا جواب في مدونة “فاوست” لـ غوته سوى ما يتلامح من رغبة “الشيطان” في أن يحفظ آخرته، أو أن يتخفى وراء روح آدمية وعدت السماء برحمتها وغفران ما اقترفته من خطايا وقت القصاص.
أتذكر “فاوست” غوته وأنا أرى سلوكيات نفر من البشر وما فيها من توحش وجلافة وروح غاباتية مفطورة على الشر، وعلى هجس في توليد الشرور وتكاثرها والتمترس وراءها خندقةً من أجل الظفر “حتى” بتوافه الأمور وهجينها، والأهم هو إدارة الظهر لكل ما هو نبيل وإنساني في زمن المناداة العالية، وبالصوت الجهير، للأخذ بالعلوم، والثقافة، والآداب، والفنون، والقيم السامية، وما حازته تجارب الخلق التي سمّاها الوصّافون بالتجارب الإنسانية لكثرة ما فيها من رواء ونداوة وجمال وعزة نفس ومحبة.
إن سلوكيات التوحش في الحوار، والمداحمة، والأخذ، والاستحواذ، والكذب والنفاق، والمراوغة والمشي في دروب الغريزة والأنانية، ودلق كل ما هو زفتي وظلامي وعمائي احتشدت به النفس الحامضية.. لهي سلوكيات صادرة عن تمظهرات التشقق والجفاف واليباس التي تعيشها هذه الأرواح بعدما باعت كينونتها لـ”منغيستو” كيما تظفر بلذاذات الحياة من دون أن تطل أدوات السؤال: لماذا، وكيف؟!
إن مثل هذه السلوكيات النفور من المحبة والنبل عرفتها المجتمعات السابقة، في أزمنة سابقة على مدونة “فاوست” ومعايشة لها، وتالية عليها، وها هي أزمنتنا تعرفها أيضاً وتستهجنها لكثرة ما فيها من بشاعة وقبح ولا سيما حين تظهر في سلوكيات من يدعون الثقافة والمعرفة والفنون والأدب.
وحين أسأل صديقي وأستاذي الذي قرأ الفلسفة ودرّسها، ووعاها قيمة وحياة ومآلات، لماذا يحدث هذا، وفي عالم الثقافة والأدب والفنون؟!، يقول: يحدث لأن الفرق شاسع ما بين الثقافة العالمة والثقافة العامة.
Hasanhamid55@yahoo.com