إذا ما أردنا إعادة نهوض الاقتصاد الوطني الإصلاح المؤسساتي شرط لازم للإعمار ويحتاج إلى تضافر الجهود على مختلف المستويات
لا شك أن الإصلاح المؤسساتي يعد شرطاً لازماً لنجاح استراتيجيات الدول في التنمية الشاملة والمستدامة؛ ولهذا يرى العديد من المفكرين المعاصرين أن فشل سياسات التنمية في غالب الدول النامية، سببه أنها قامت على افتراض وجود بناء مؤسساتي قادر على النهوض بأعباء التغيير، بمعنى آخر: إن استمرار تخلف العديد من الدول النامية وتزايد فجوتها مقارنة بالدول المتقدمة، هو نتاج جهلها أو تجاهلها لتأخرها في مجال البناء المؤسساتي، ولعدم إعطائها عملية الإصلاح المؤسساتي الأولوية التي تستحقها.
استهللنا بهذا لنبين أنه إذا كان الإصلاح المؤسساتي يشكل أولوية لكل الدول على اختلاف درجات تقدمها، ولاسيما للبلدان النامية التي تسعى على طريق التنمية الطموحة، يصبح هذا الإصلاح درب الخلاص الذي لا غنى عنه للبلدان التي تعاني من تداعيات الحروب والدمار، ولاسيما تلك الدول التي أنهكتها حروب داخلية، وتلك التي تجتاح سورية خلال هذه المرحلة المؤلمة من تاريخها، وهذا ما تؤكده تجارب البلدان التي عانت من ويلات هذه الحروب؛ لأن تقوية بنيان الدولة وتعزيز الثقة بمؤسساتها وإعادة اللحمة الوطنية، هي الطريق التي يمكن من خلالها بعث الأمل من جديد، ومنح الثقة بإمكانية تجاوز المحنة وبلسمة الجراح والآلام، وهذا أيضاً من ناحية أخرى يساعد على قطع الطريق أمام المتاجرين وأصحاب المصالح الذين ينتظرون بفارغ الصبر ركوب عربة إعادة الإعمار لتحقيق مصالحهم الذاتية التي لا تتحقق إلا من خلال إضعاف هيبة الدولة والتشكيك بقدرتها على تجاوز الظروف الصعبة التي تمر بها، كما أن تقوية بنيان الدولة سيعزز ثقة المجتمع الدولي بقدرتها على تجاوز أزمتها، وإعادة بناء مؤسساتها، وإحياء وتجديد دورها في مجالها الحيوي وعلى المستوى الدولي.
بأمس الحاجة
ويرى الخبير الإداري الدكتور حسين إبراهيم أن سورية بأمس الحاجة اليوم بما لا يقاس بأي وقت مضى لإعادة صياغة بنيانها المؤسساتي على أسس متينة وراسخة، تقوم على عقد اجتماعي جديد تتكرس فيه المصالحة الوطنية، ويشعر فيه الجميع بأن العملية السياسية والتنموية تعنيهم جميعاً دون أي تفرقة على أي أساس كان، مبيناً -في ورقة عمل له سبق أن طرحها- أن عملية الإصلاح المؤسساتي يجب أن تكون على رأس أولويات عملية البناء وإعادة الإعمار، وبأنها يجب أن تتقدم بلا منازع على سائر مسارات إعادة البناء والإعمار الأخرى.
وباعتبار أن هذه العملية معقدة وبطيئة وتراكمية، وهي تحتاج إلى تضافر الجهود على مختلف المستويات؛ لذا فإنه من الأهمية بمكان أن نبدأ بالعمل على إنعاشها منذ الآن، وأن نعطيها الزخم الذي تستحقه، على الأقل على بعض المحاور التي قد تكون ممكنة حالياً ولاسيما على مسار التنمية الإدارية.
تجربة عالمية
واستعرض إبراهيم تجارب عدة، وكان أبرزها التجربة الألمانية، ليبين أنه وبعد أن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وبعد أن وصلت ألمانيا إلى دولة بلا مؤسسات ولا مرافق ولا اتصالات ولا مواصلات ولا كهرباء ولا منافذ لبيع الغذاء والدواء، وبعد أن فقدت ألمانيا ربع منازلها، وانخفاض إنتاج الغذاء بمقدار النصف عما كان عليه قبل الحرب، كانت المفاجأة أن ألمانيا استطاعت بعد أقل من عقد من الزمن أن تكون صاحبة أكبر وأقوى اقتصاد في أوروبا، ورابع أكبر اقتصاد على مستوى العالم، وطرح إبراهيم في هذا السياق سؤالاً مفاده “هل تحقق هذا بفعل مشروع مارشال الذي تبنته الولايات المتحدة لإعمار أوروبا؟”. ليوضح أن الخبراء الذين قيّموا تلك المرحلة من تاريخ ألمانيا يرون أن خطة مارشال رغم أهميتها لم تقدم لألمانيا الغربية سوى قدر محدود من المساعدة، فبحلول عام 1954 لم يكن إجمالي ما قدمته خطة مارشال وبرامج المساعدات الخارجية المصاحبة يتجاوز الـ2 مليار دولار، مع ملاحظة أن المساعدات الخارجية كانت تقدم بيد، في الوقت الذي كان يجري استنزافها باليد الأخرى، عبر ما يسمى بتعويضات خسائر الحرب التي فرض على ألمانيا تقديمها سنوياً لدول الحلفاء.
قواعد السوق
والواقع كما يرى العديد من الخبراء، أن نجاح ألمانيا في تحقيق معجزتها الاقتصادية يرجع إلى تبنيها لنهج اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي طرحه وزير اقتصادها في عام 1948 القائم على تبني قواعد السوق الحرة، مع الحفاظ على حقوق المجتمع والعمال، فالدولة وفقاً لهذا النهج مسموح لها التدخل بالحدود التي تمكنها من تحفيز النشاط الاقتصادي، ووضع سياسات تضمن بيئة تنافسية بعيدة عن الاحتكار، ووضع سياسات اجتماعية لحماية الفرد والعمال؛ مما أسهم في تحفيز المجتمع المدني على إقامة شركات مساهمة للإنتاج وإعادة الإعمار بالتعاون مع المصارف، فظهرت شركات صناعية كبرى في مجال صناعة الحديد والصلب والسيارات.. إلخ، وتم ربط الشركات الكبرى بشركات أصغر ومشروعات صغيرة ومتناهية الصغر تقدم خدماتها ومنتجاتها للشركات الكبرى الأم، وهذا بدوره ساعد على ازدهار هذه المشروعات، وساعد على تحولها إلى شركات متوسطة تستوعب الكثير من الأيدي العاملة، حيث أصبحت الشركات المتوسطة أكبر مولد لفرص العمل في البلاد، واعتبر إبراهيم أن أولوية الإصلاح الاقتصادي في ألمانيا بعد الحرب لم تكن على حساب مسارات الإصلاح المؤسساتي التي تم العمل عليها بالتوازي دون أن يتقدم أحدها على الآخر، مما أسهم في عودة ألمانيا السريعة كإحدى أهم الدول على المسرح العالمي.
لابد من تجديد
وخلص إبراهيم إلى أنه لابد للدول التي عانت من حروب داخلية من أن تعمل بكل طاقاتها لتجديد بنيانها المؤسساتي، لتتمكن من الاضطلاع بالمهام الجسيمة لإعادة الإعمار؛ لأن ذلك يعد شرطاً أساسياً لكي تكون قادرة على توحيد وتسخير جهود مختلف القوى الداخلية، وإعادة الثقة بالمواطن والحكومة وبالناس أنفسهم، وتعبئة واستثمار الموارد المتاحة بصورة فعالة وكفوءة، كما أن ذلك يعد إحدى أهم الرسائل لتشجيع الخارج على المساعدة في تقديم الدعم والإسهام في إنجاح هذه العملية.
وبالنتيجة ما تقدم يظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن الإصلاح المؤسساتي يبقى الركن الأهم في عملية إعادة الإعمار للدول التي عانت من الحروب والدمار، مهما اختلفت ظروف هذه الدول، وهو الطريق الوحيد الذي لا بد من سلوكه لبناء الدولة القوية العادلة؛ ما يعني أن عدم إعطاء عملية الإصلاح المؤسساتي الأولوية كأحد أهم مسارات عملية إعادة الإعمار في بلدان ما بعد الحروب يعد قفزاً في المجهول، ومجازفة قد يكون لها تداعياتها السلبية الكبيرة على عملية الاستقرار والتنمية، وعلى مستقبل تلك الدول برمتها.
حسن النابلسي
Hasanla@yahoo.com