العرب و”استئناف الحرب الباردة”؟!
ثمة مشهد سياسي، وميداني، عالمي يوحي – في ظل حذر وخوف الكبار من البديل الساخن- بإمكانية استئناف جديد للحرب الباردة من حيث قطع مسيرتها، وسيرورتها، السقوط المدوي للاتحاد السوفييتي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وتطويب الأمريكي كحاكم وحيد للعالم، وبالتالي “استقرار” الحديث عن “نهاية التاريخ” كأطروحة غير قابلة للمجادلة والنفي، وهي الأطروحة التي لم ينتظر التاريخ ذاته طويلاً للهزء منها لأنه تاريخ التغيّر لا الثبات، تاريخ الدول، من دال وزال، وليس ثبت ودام.
ومن يراقب حركة الدول العالمية الكبرى اليوم ومسار سياساتها وأماكن “استحداثها” بؤر التوتر وتوزّعها الجغرافي، يلاحظ السعي الحثيث من جانب هذه الدول لتحضير وتحديد حدود الأحلاف و”المحميات” الجديدة لربح هذه الحرب، لكن النشاط الأمريكي في هذا المجال هو الأكثر وضوحاً وتنوّعاً واستخداماً للأساليب الجديدة مثل “تكتيكات الحرب الهجينة المستجدة، كالحرب السيبرانية والإعلامية والتجارية والعقوبات الاقتصادية، دون أن تغفل الأساليب القديمة، فأعادت– مستغلة المشهد العالمي الذي انجلت عنه غبار الحرب الباردة الأولى- إحياء “حلف وارسو”، ولكن بتوجّه معاكس جذرياً للأول، وحافظت على “حلف الناتو” الأطلسي، ولو مع بعض “الزكزكات” لأطرافه الأخرى، ودعّمته بـ”ناتو عربي” يراد منه تحويل الشرق الأوسط بأكمله “لصالح الولايات المتحدة واهتماماتها، لا لمصالح المنطقة وشؤونها”، بحسب توصيف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي رآه، محقاً، امتداداً للهياكل “التي تحاول أمريكا زرعها بشكل مصطنع في العالم، مثل مفهوم منطقة الهند والباسيفيك والتي تندرج في سياق واضح يهدف لاحتواء الصين”.
وقبل ذلك كله كانت واشنطن قد بدأت بـ”تنظيف” حديقتها الخلفية، وهي خط دفاعها الأول عن هيمنتها وسيطرتها العالمية و”حقلها” و”بئرها” الاقتصادي الهائل، من “شوائبها” اليسارية ومن الوجود الروسي الصيني في الآن ذاته – ومن اللافت في هذا السياق إعلان كل معارضة في هذه الدول أنها ستزيل آثار الوجود الروسي الصيني إذا وصلت للحكم- فبعد البرازيل جاء دور فنزويلا وآخر “مآثرها”، هناك محاولة إشعال “ثورة شاحنات” المساعدات الإنسانية لإسقاط الحكم البوليفاري، وهي محاولات يبدو أنها ستشهد قريباً أيام “جمع” عديدة، تمهيداً، ربما، “للسيناريو السوري” تعويضاً عن “الفشل السوري” أيضاً.
وبالطبع لا بأس من مشهدية عسكرية للتسخين والإثارة، وهو ما يتمثّل بإعلان واشنطن نيتها تعليق التزامها بمعاهدة القوى النووية المتوسطة المدى الموقّعة عام 1987، بما سيتيح لها حرية تطوير صواريخ جديدة، وسيؤدي بالتالي لسباق تسلّح مجنون ومكلف، أملاً بجر روسيا والصين إلى نهاية مماثلة لنهاية الاتحاد السوفييتي السابق، ولكن، ولخطأ في سوء التقدير، أو وهم القوة لدى البعض، قد يكون الأقرب للتحقق هو نهاية الجميع عبر سيناريو “يوم الدينونة” المفزع.
قصارى القول: هي بوادر حرب باردة جديدة قد تطبع العالم بطبعتها لعقود مقبلة، وتريد منها واشنطن منع أو تأجيل أو التخفيف من فواتير مستحقة لاستحقاق قيام عالم متعدّد الأقطاب أصبحت ملامحه شبه مرئية للجميع، لكن المؤكّد أن هذه الحرب الباردة عالمياً ستكون ساخنة في مناطق أخرى ومنها “ربوعنا” الجاهزة ذاتياً وموضوعياً لذلك، فكما كانت منطقتنا طوال الحرب الباردة الأولى، مسرحاً ساخناً لها، وبالتالي لحرب باردة عربية صغرى وحروب ساخنة أخرى متعدّدة، سواء كانت أهلية أم قطرية، فهي ستكون اليوم مسرحاً ساخناً لحروب تنهل من مخزون ثارات تاريخية قبلية على مثال “داحس والغبراء”، أو التنافس الخاطئ على قضايا السماء والصراعات الوهمية الجانبية الأخرى، لتبقى أراضينا، ونبقى معها، كما في الحرب الباردة الأولى، حقل اختبار الأسلحة الجديدة، وقياس موازين القوى المتبدّلة، وصندوق بريد لتبادل الرسائل الساخنة بين الدول الكبرى في صراعها المستمر على الأرض.
ذلك دورنا الذي يدافع عنه بعضنا باستماتة، وخاصة عرب “حلف وارسو”، باعتباره من تراث الأجداد الذي يجب الحفاظ عليه، ولو كان الثمن الاستمرار في هذا التيه العربي العميق.
أحمد حسن