“قتلت أمي لأحيا”.. حكاية بلد بأكمله
“سلمى الصبية التي لم يسمح لها فراقها عن يونس بأن تحقق أمنيتها في بناء عائلة تَنْغلُ بالبنين، وهبت أنوثتها المتفجرة شهوةً كتومة للأرض، كانت تشعر برحمها ينبض لذةً حين يبرعم العنقود على أمه وتلتوي أغصان الزيتون بحمولتها، رحمها والأرض لم يعودا يفترقان. من قشعريراتٍ واحدة وعطشٍ واحد إلى النكش والري كانا. فكيف كان في وسعها أن تأخذ إجازة من قرانها الأبدي بكل حبة تربة، وهذا الفتى الغامض لم يبشر، منذ أن انفصل عن حضنها بأنه سيكون وريث وصية يونس”.
وليس الفتى سوى الحفيد فارس الذي لم يحفظ من حكايا الجدة سلمى سوى أنه ولدٌ يتيم لا أب له ولا أم: “كلما عدت إلى سني طفولتي تذكرت النقافة والأذى الذي كنت أقترفه بلذة على كائنات ضعيفة، لا حصن لها ولا حماية، فأقشعر اشمئزازاً من الولد الذي كان من حيث لا يعي يمارس عليها ما كان في وِدّه اقترافه على ذاته”.
لعنة الموت
تفرد مي منسى ما يقارب قرناً من الزمن على أوراق روايتها “قتلت أمي لأحيا” تبدأ بأحداث سفر برلك لتنتهي في تسعينيات القرن الماضي، وتتجاوز بالأحداث حدود “عين الشمس” القرية المفترضة للعائلة المصابة بلعنة الموت والفراق وكأنها تكرس بدءاً بالعنوان الصادم للرواية جدلية الموت والحياة. أيفترض فناء جسد ليحيا آخر؟! ستتجاوز صاحبة الرواية لبنان مسرحاً لأحداثها فتنتقل بنا إلى البرازيل حيناً وفرنسا حيناً آخر، إلى حيث ترحل شخصيات حكايتها التي تنتمي إلى أجيال متعددة، وتنسج منها ملحمة حياتية تفصل السنوات ما بين أبطالها بينما المآسي تشدها بعضاً إلى بعض.
إلى هؤلاء تنتمي الجدة سلمى رستم ابنة العائلة الريفية، الصبية التي انتزع الجند الأتراك زوجها يونس من أرضه أمام عينيها واقتادوه إلى “السفر برلك” مع الكثير من الشبان الذين انخرطوا في مقاومة المحتل التركي: “إياك يا سلمى أن تهملي الأرض، ثابري على إيقاظ مواسمها حتى لا تصبح كفناً للذاكرة”. كانت تلك كلماته والأتراك يقتادونه بعيداُ مكبل اليدين.
الأذن الصاغية
ستتوالى الحكايا وتتوالد المآسي في حياة سلمى وتنتقل إلى الأبناء والأحفاد، تفجع بمقتل ابنها رفيق وهو يقف حائلاً ما بين شقيق زوجته وصديقه في نزاعٍ كان اسم فتاة ما يلعلع كالرصاص فيه أعلى من الأصوات المتراشقة بالسباب والشتائم، سيتلقى رفيق ضربة السكين بينما سلمى تصرخ وتولول :”اللعنة على حقولكم، تدر لكم المال الملوث بالخطيئة، وتجلب الويلات على القرية”. هكذا ستختزن العروس كل ما مرت به من مآسي في انتظار أن يكبر فارس الحفيد ويكون أذناً مصغية لحكاياها ولكن، لن يكون ذلك إلا على يد ابنته رشا: “قلمي المتأهب كان ينتظر كلمة منها ليباشر بالكتابة” كانت الصبية تفكر.
ثورة وتمرد
حين قتل رفيق على يد شقيقها، تخلت زوجته هدى عن صغيرها فارس وأرسلتها أمها إلى البرازيل بحجة جنون أصابها، هناك تزوجت هدى ليتخلى عنها الزوج فيما بعد، ويتم العثور عليها لاحقاً وقد شُنقت بواسطة واحد من مناديلها، هي واحدة من سلسلة المآسي التي عاشت سلمى لتشهدها وتخسر أحبتها الواحد تلو الآخر، لن يطول زواج فارس وتموت زوجته ثريا أثناء ولادة التوأم “رشا وسناء” التي اتجهت لدراسة العلوم الإنسانية، واختارت الانتقال إلى مخيم اللاجئين الفلسطينيين حيث عثرت على ضالتها “الفقر والبؤس والانتظار المستحيل للعودة إلى الديار، كانا موضوع أطروحتها التي نالت عليها تقدير اللجنة الفاحصة ولقب دكتور في العلوم الإنسانية” تقول لوالدها وهي تهم بمغادرة المنزل: “ثورتي هي ضد مجتمع بورجوازي، أتخمه الترف، بينما الأطفال اللاجئين يعانون في المخيمات الجوع والمرض” تنضم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتنخرط في العمل الفدائي بهدف إيصال أصوات المخيمات إلى العالم، وتكون واحدة من شهداء صبرا وشاتيلا، هكذا نشهد في جدالها مع أبيها، الانقسام الحاد تجاه الوجود الفلسطيني في لبنان منذ البدايات، والحرب التي أشعلتها فأورثت الجراح العميقة لجميع الأطراف.
تتحمل سلمى أقدارها ومآسيها الواحدة تلو الأخرى بكل صبر وقوة وتضم إليها الأبناء وأبناء الأبناء تقوم على تربيتهم والاهتمام بهم، لتشكل سيرة حياتها وحياتهم ما يشبه الأسطورة في العطاء والقوة.
حكايا جانبية
في الرواية شخصيات أخرى تعلقت حكاياتها بحياة العائلة من شريف صافي الممثل المسرحي الهارب إلى ستراسبورغ، إلى الأستاذ ماجد مزرعاني الذي سيقتل بعد أن ترك نسرين حبيبته لتكون واحدة من ضحايا جرائم الشرف: “كيف تخليت عن نسرين بين يدي قتلتها ولم أقدم على عمل شجاع لإنقاذها مع طفلنا”، وصولاً إلى ضياء العجمي وقصته مع الممرضة دارينا. جميعها أرواح هاربة من كابوس ما يلاحقها سواء كان اليتم أو الوحدة، الغربة أو العزلة، الشعور بالذنب أو الضياع، شخصيات جمعتها “مي منسّى” على صفحات روايتها تاركة لها أن تختار مهربها أو مصيرها، ليكون الانتحار والقتل والسفر أو العزلة خيارات ووسائل خلاص لها إلا الكتابة والمسرح كانا مهرب رشا التي ستكتب الحكاية وتروي أغلب فصولها، وقد اتجهت إلى قلمها هرباً من إحساس بالعزلة والوحدة وشعور بالذنب أثقل عليها أن تموت الأم أثناء ولادتها، الحدث الذي أعطى للرواية اسمها الغريب: “كنت تلك التي قتلت أمها” شعور أورثها داء التوحد كما شخصه الطبيب حيث ترسل إلى بلجيكا لتتلقى العلاج في مؤسسة باتت مسكنها أثناء الحرب اللبنانية وحيث يكتشف ضياء العجمي موهبتها في الكتابة: “رشا لا تدري أنها بهذا النص الحاد القوي لمست ميثولوجيا الموت” حين قرأ نصا دونته، وهناك ما إن مزقت غشاء عزلتها ووجدت نفسها في الكتابة سيطلب إليها أن تعود لوداع والدها الذي قتل برصاصة قناص على الخط الفاصل بين “بيروتين شرقية وغربية” وهو متجه إلى حيث تقيم لحضور المسرحية التي تشارك فيها، وقبل أن تغادر الطائرة المتجهة إلى لبنان أدركت في قرارة نفسها أن بقاءها سيطول ليس للبحث عن شقيقتها سناء كما أوصاها والدها في رسالته الأخيرة، بل لكي تنشر سيرة عائلة، حكايتها حكاية لبنان بكل ما مر به من مراحل مأساوية: “بدءاً من الغزو التركي والجوع والجراد والاغتراب، وصولاً إلى الحرب الأخيرة التي ما زالت تنز أحقاداُ لن تلتئم”.
ملحمة روائية تجاور الأسطوري والتاريخي مع الواقع، حضر أورفيوس وكاليغولا وجبران وألبير كامو إلى جانب محمود درويش وضياء العجمي وشريف صافي، تعدد الرواة من رشا إلى فارس إلى سلمى سواء بالمباشرة أو بالنقل أو من خلال قراءة ما دوّنه البعض من مذكرات آخرين وتفاوتت الأحداث وأزمنتها، لتأتي في النهاية ملحمة عن الوجع الإنساني وسيرة بلد بأكمله مجسداً في سيرة عائلة مصابة بلعنة الموت والفقدان.
بشرى الحكيم