المسرودُ يسخرُ من الأدبِ الجيّد والسيئ
طغيان النّثر على الحياة عموماً، يبدو هو الوجه الظّاهريّ للأشياء، ابتداء من الحكايات الشفوية، مروراً بالفلسفة والنصوص العلمية والتّاريخ، ولوجاً إلى الأسطورة والملحمة والرواية، انتهاءً بالمسرح والدراما والسينما وغيرها. المسرود يسخر من الأدب الجيّد والأدب السيئ، لأنّه عالميّ وعابر للتاريخ والثقافات كما يقول النّاقد والمنظّر البنيوي “رولان بارت” وجوده كوجود الحياة ذاتها، ولكنّ النثر الأدبي يختلف عن النثر العام بفنيّته الهادفة إلى إيجاد توازن بين ما اصطلح على تسميته مدرسيّاً بالشّكل والمضمون. أمّا النثر العام فيغلب فيه المضمون على الشكل الذي يغدو بهذا المعنى مجرّد أداة لتوصيل المضمون وحسب، أما الشّعر فينفرد لوحده في تغليب الشّكلِ على المضمون ومن خلاله يمكن الحكم على علوّ منسوب الفنيّة في قصيدة ما دون غيرها أو انخفاضه. وللتّفريق ببساطة بين الجملة النثرية والجملة الشعريّة، نسوقُ الجملة الأدبيّة الآتية: (الأذن تعشق الجمال وترتشف متلذّذةً مذاقَ الروائح الشّذيّة) مع أنّ وظيفة الأذن التقليديّة المألوفة هي أن تسمع الأصوات وتطرب لموسيقاها الإيقاعية، ولا تستطيع الوقوع في عشق الصورة كالعين، فهي لا ترى، ولا ترتشف لأنّها ليستْ فماً، ولا تشمّ لأنّ هذه السّمة من مزايا الحاسّة الشّميّة. هكذا، يرى البعض أنّ الجملة شعريّة رغم نثريّة التّركيب والمبنى، وقد تولّدت شعريّتها من انزياح الكلمات وانحرافها عن المتواضع عليه والمألوف، من خلال زجّ الكلمات في سياق مختلف صادم لم تألفه الذائقة التقليديّة ولا اللّغة. وهذا بدوره سيولّد ما يشبه فجوة ومسافة توتر، اعتبرتَا من ضرورات الشعريّة بمفهوم النّقد الحديث. فالشعر يبدأ بمقدرته على خلق شرارة المفارقة عبر خلخلته المدروسة لسياق الكلمات، ما يتسبّب بخلق علائق جديدة تؤدي بدورها لإحداث الدهشة المغايرة في آليّة التّلقّي لصالح الحالة الشعريّة.
أمّا الموسيقا الخارجية الإيقاعية في الشعر حسب التّوصيف المعياري القديم، الصّادرة عن القافية الواحدة أو المتنوّعة، والوزن الواضح، والإيقاع المنبثق من الرّنين الصّوتي لبعض حروف اللغة العربية العالية الوقع، وذات الجزالة القوية أو المتولّد من التكّرار الدّائري لبعض الكلمات، أو الجمل كلازمةٍ لابدّ منها ضمن المقاطع الشّعريّة، فقد تبدّلت جذريّاً. حتى أنّ بعض النّصوص النثريّة الأدبيّة التاريخيّة العالية الفنيّة الحائزة على المواصفات السابقة من “محسّنات بديعيّة واستعارات وكنايات وسجع وبلاغة جيّدة” أقصيَتْ من مجال الشعريّة. ولم تعد الموسيقا بهذا المعنى، السّمة الفاصلة التي تميّز الشّعر عن النثر، وبالمقابل ثمّة الكثير من القصائد التاريخيّة المعروفة ليستْ أكثر من هندسةٍ نظميّةٍ ورصفٍ للكلمات وحسب، تفتقر بشدّةٍ لروح الشعر العفويّة النّبض.
لقد استُبدلَتْ الموسيقا الخارجيّة التي ميّزتٍ الشعر العمودي وشعر التفعيلة لـ “ضرورات موضوعيّة أفرزتها” بحالة مهموسة ميّزتْ “قصيدة النثر” ووسمت أحد تجلّياتها بـ “الومضة الشّعريّة” التي تتنفّس نسيمها النّديّ من أبخرة الإيحاء البرقيّ الخارج للتّو من مطبخ المخيّلة، بعد تلقّي الصّورة الشعريّة بشكلٍ مغاير وهضمها من قبل القارئ التّفاعليّ. ولتمييز قصيدة الومضة عن قصيدة النثر بالإضافة لميزة الطّول أو القصر، أسوقُ التّصوّر التالي: بأنّ الجملة الشعريّة التي تخلق المفارقة على شكل قصيدة برقيّة أشبه بالومضة سرعان ما تتّسع هي ذاتها، لتشكّل “قصيدة صورة” تخلق بدورها مفارقتها أيضاً، بحيث لا يمكننا حذف أيٍّ من جوانبها المترابطة، لأنّ ذلك لو حدث سيشكّل إعاقة لتشكيل الصّورة المتخيّلة ويمنع اكتمال صيرورتها. هكذا تصبح المفارقة التي خلقت قصيدة الومضة والتي خلقت قصيدة الصورة حلقتين من حلقات تشكّل الشعر في النثر كما يقول البعض. وتأتي الحالة الثالثة كما في قصيدة النثر التي تحتوي أكثر من صورة شعريّة يتطلّبها اكتمال التركيب اللغوي للجملة الشعريّة للوصول إلى التّوليفة الشعريّة المتوخّاة.
ثمّ تأتي الحالة الرابعة التي يسمّيها البعض “الشعر في النثر” أو “شعر النثر” أو “النصّ المفتوح” بمعنى ما، الذي يتخلى عن تأطير القصيدة في قصيدة صورة وقصيدة نثر ويأخذ شكل النصّ النثري. وهكذا يكون شعر النثر حسب تصوّر هؤلاء شعر معنى يتدرّج من الجملة الشعريّة إلى الصورة الشعرية إلى قصيدة الشعر إلى النصّ الشعري. وهي الأشكال المعبّرة برأيه عن جوهر الشعر مع اشتراط المقدرة على خلق المفارقة والدهشة واللّامألوفيّة والقابليّة العالية للتّأويل والاحتمالات المختلفة.
وأمّا هندسة البياض التي يتوسّلها البعض لترتيب قصائدهم في الفضاء الورقي، و”ربّما كنت أنا منهم” فأعتقد أنّ لها دوراً مهمّاً، أكثر من شكليّ. يتمثّل في تسهيل عملية الحذف والاصطفاء والغربلة التي ستمارسها العين القارئة، وهي تتلقف الحروف وتلتهمها، مستريحةً من العناء الذي يسبّبه حجم الكلمات وازدحامها الكبير في الصفحة، وهذا يفسح المجال لتشكّل آليّة تفاعليّة كيميائيّة جديدة، تتلخّص بالتّركيز والامتصاص الهادئ للمقروء قليل الكلمات. إلى جانب ميزة أخرى يوفّرها هذا التوضّع الجديد للكلمات، وهي حالة التّداخل الخفيّ للعبة الظلّ والضوء باعتبار البياض حالة ضوء مجازية ممتلئة، ستتداخل بالضّرورة مع فراغات القصيدة وظلال حبرها المعتمة، التي تحتاج لإكمال وردم من قبل القارئ الذّواق. ليحلّق بدوره مع دلالات النص الشاردة فوق غيوم التّأويل، مستمطراً غيوبَه الضّنينة البوح. هذا الأمر ليس حكراً على شكل شعري دون الآخر، وهو يرسم كلماته ضمن البياض باعتقادي. وتأتي علامات التّرقيم كضرورةٍ غير تقليديّة ومهمّة أيضاً، تساهم في التقاط القارئ لنفَسهِ بمساعدة المخيّلة أثناء محاولتها اللّاهثة المسك بأطراف المفردة الزئبقيّة الإيحاء. أما الثقافة عموماً، فهي ضروريّة للجميع. لشعراء “العمود والتفعيلة والقصيدة النثريّة” بالتحديد الثقافة الجماليّة. وقد تتطلّب عمليّة الانتقال من نمطٍ كتابيٍّ إلى آخر ومن حالة ثقافية إلى أخرى تأثّراً برافد جديد أجنبيّ أو عربي، حالة تدريجيّة تقليديّة، لكنّها ليستْ الطريقة الوحيدة لذلك. ثمّة حرقٌ للمراحل يتجلّى في نتاجات البعض دون الآخر، فطريقة التلقّي الجمالي تتطوّر طرداً بالتّناسب مع مقدرة صاحبها على هضم الثقافات عموماً جماليّاً ومعرفيّاً بلا قواعد جاهزة، شرط الجرأة على المغامرة، وكسر القواعد النّمطيّة المانعة للتطوّر. و”أحياناً يأتي تطوّر شكل القصيدة من الجهل بالقواعد النّمطيّة”، فلكي يتمكّن الكائن الشعري تحديداً، من امتلاك الجديد المتغيّر دوماً حوله فإنّه بحاجةٍ لحرق مراكبه العتيقة في كلّ مرحلةٍ، وهذا يتطلّبُ حتماً تطويرَ آليّات تلقٍّ وهضم جديدين يتناسبان وسرعة المتغيّرات الهائلة في كلّ المجالات.
أوس أحمد أسعد