الفريسة والمفترس
ترجمة وإعداد: لمى عجاج
إن المحاكاة التي سنستخدمها اليوم للمقارنة بين الفريسة والمفترس ستكون مفيدة إذا ما قسناها على ما يحصل اليوم، ففي الألفية الماضية على وجه التقريب لعبت بعض الدول دور المفترس في حين لعبت دولٌ أخرى دور الفريسة، فالفريسة والمفترس متغايران تماماً في الشكل والسلوك وفي الطريقة التي سيستخدمونها للسيطرة على فريستهم بحسب ما تقتضيه مصالحهم المشتركة، لذلك تعتبر هذه المحاكاة شاهداً قوياً على ما يجري في وقتنا الحاضر.
لقد استطاعت بعض الدول أن تشكل تحالفاً وتعمل مجتمعة مع بعضها، وتحقق مع الوقت تفوقاً عسكرياً مكنها من أن تلعب دور المفترس القادر على افتراس بقية العالم، وخير نموذج على هذا هو إنكلترا التي لعبت دور السمكة المفترسة، إنكلترا التي كانت قابعة في جزيرةٍ صغيرةٍ مع جيرانها الويلز والأسكتلند المولعين بالحرب استطاع الإنكليز أن يقمعوا الويلز، لكنهم لم يتمكنوا تماماً من الاسكتلنديين فعندما اعتلى حاكم اسكتلندا العرش قام بذكاء باختلاق ما عرف بـ “مملكة بريطانيا العظمى” وأوجد اللغة الإنكليزية والشعب البريطاني، ووحد الويلز والاسكتلنديين على قضية مشتركة، هذا الاتحاد خلق فيما بعد أضخم امبراطورية في تاريخ العالم وبسبب اتساع حجمها في أوج قوتها استخدمت عبارة “الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”. وبالطريقة نفسها أخذت الولايات المتحدة الأمريكية دور السمكة المفترسة في فترة معينة من تاريخها بدأت عندما كانت دولة صغيرة على سواحل المحيط الأطلسي لتصبح قارة تسيطر على المحيطين الأطلسي والهادي، وذلك على حساب السكان الأصليين من الهنود الحمر، وأصبحت تمتلك أكبر وجود عسكري يسيطر على مئات القواعد العسكرية، ومكنها من فرض سيطرتها كما أن وجودها البحري المنتشر على مساحة واسعة من العالم أضعف مستعمرات القرن التاسع عشر التي تتبع للامبراطورية البريطانية وأفقدها قوتها بعد أن كانت القوة المهيمنة على العالم، وما ساعد الولايات المتحدة الأمريكية توفر الأدوات الدولية، وأبرزها البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وصندوق النقد الدولي التي استخدمتها كأسلحة في ترسانتها، كانت المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية بالتعاقب من أكثر المفترسين نجاحاً وقوة واستطاعوا التغلب على جميع التحديات وتمكنوا في وقتها من الصعود ليصبحوا أعظم قوتين في تاريخ العالم، والأشد ضراوة وافتراساً.
في المقلب الآخر كانت البلدان والممالك الإفريقية فريسة للأوروبيين، والعرب الذين كانوا يلعبون دور المفترس أصبحوا الآن الفريسة، وصاروا يشكلون المادة الخام والمكان الملائم للمستعمر، لقد سقطت الحضارات في وسط وشمال أمريكا بسرعة بفعل الغزو الأوروبي وأسلحته القاتلة. فلعدة قرون ظلت الحضارات والبلدان غير الأوروبية فريسة لأوروبا وحتى بلجيكا التي كان من الممكن أن تفترس أفريقيا أصبحت فريسة لأوروبا، حتى الصين وبكل عظمتها تعرضت للافتراس، ولكنها الآن أصبحت من أكثر الدول المسيطرة والسائدة عالمياً.
وإذا غصنا وتعمقنا أكثر في التاريخ فإننا سنجد أنه حتى قبائل الزولو والأنكاس والازتك والأيروكواس التي كانت من أشرس القبائل على أرضها وجدت من يفوقها شراسةً، فالأوروبيون تمكنوا من افتراسهم والقضاء عليهم. كذلك السويد كانت تلعب دور المفترس الجشع إلى أن تعرضت للهزيمة في معركة بولتافا التي وضعت حداً لجشعها، ومنذ ذلك الوقت والسويد تعيش في هدوء وسلام وتتبنى سياسة عدم الانحياز، كما تقاسمت إسبانيا والبرتغال في الماضي احتلال العالم عندما كانتا أكبر مفترس ولكن كثرة الحروب التي خاضتها أنهكتها وأضعفتها واستسلمت بعد أن انهار اقتصادها.
إن هذه العلاقة الثنائية بشقيها الفريسة والمفترس هي التي أوجدت هذه الأساطير الوطنية وصنعتها، فلما يزيد عن الألف سنة عبر التاريخ تعرضت روسية لغزو صليبي مغولي دار بين الفرسان المغول وفرسان التيوتن عرفت بحقبة النير المغولي الذين أطلق عليهم الروس اسم التتر، استمر الصراع لقرون طويلة في محاولة للتخلص من النير التتري وتوحيد الأراضي الروسية، توسعت روسية في القرون الخمسة اللاحقة في جميع الاتجاهات، لكن هذه الذكريات ظلت راسخة في ذهنها مع أن نفوذها أخذ بالازدياد، فعندما كانت روسية عرضة للافتراس كان عليها أن تحارب من أجل الحفاظ على وجودها وعلى هويتها، فقد كانت الكنيسة الروسية في الذروة في امبراطورية مترامية الأطراف مع عدد ضخم من الأديرة التي كانت أكثر من القلاع في حين كانت القلاع أكثر من الأديرة في أوروبا ولم تكن الأديرة محصنة كما هو الحال في روسيا، فالكنيسة الروسية أسهمت طوال ألفية كاملة في تكوين هوية روسيا، وكانت عامل وحدة وطنية للروس، خاصةً خلال فترة الاحتلال المنغولي، فلحسن الحظ استطاعت الكنيسة الروسية أن تحافظ على رعاياها وعلى الهوية الروسية، ولكن عندما وصل نابليون إلى السلطة عانت الكنيسة الروسية من الاضطهاد فقد تعامل نابليون مع الكنائس على أنها إسطبلات، ومع الهجوم النازي لهتلر في زمن الاحتلال الألماني بقي الوضع على حاله، لذلك كان على روسيا أن تحمي وجودها وأن تحافظ على كنيستها محصنة في وجه الحروب الدولية، وهذا ما برر غياب القلاع التي استخدمها الأوروبيون آنذاك كمعاقل سرية يتحصنون بها عند تعرضهم لأي هجوم، فكانت القلاع مركز السلطة وأهم وسائل الدفاع المركزية بالنسبة لهم، في حين كانت الكنيسة الروسية هي المرجعية الوحيدة والأساسية والضامن الحقيقي للهوية الروسية.
إن تاريخ أوروبا في كل حروبها كان في التنافس بين الدول الأوروبية فيما بينها للحصول على المزيد من المستعمرات والتطلع إلى السيطرة الاقتصادية، في حين إن تاريخ روسيا هو تاريخ طويل في مواجهة ومحاربة الدخلاء والغزاة وجهود حثيثة لتوحيد أراضيها، لقد كان للروسيين وجهة نظر مختلفة تماماً عن الحرب، فبالنسبة لروسيا إنها مسألة حياة أو موت أما بالنسبة لأوروبا الوسطى فكانت الحروب مجرد رياضة يمارسها الملوك، فقد خاضت العديد من الحروب المدمرة والمهلكة التي لم يكن لها أي جدوى، إن الحروب الثورية والدينية المدمرة التي خاضها الملوك الواحد تلو الآخر لم تكن لأجل أوروبا بل كانت عبارة عن حروب أهلية بين الدول الأوروبية فيما بينها.
إن مفهوم أمريكا وبريطانيا للحرب هو مفهوم إبادة وتدمير، لكن ما تعرفه روسية عن الحرب أعمق بكثير فروسية لم تنس بعد ما تعرض له ضحايا لينينغراد من قصف وجوع وبرد، ولا يزال منظر الجنود والأوساخ العالقة عليهم حاضرة أمام أعينهم، فالضحايا التي دفنت في مقبرة بيسكاريوفسكوي توازي كل الضحايا في كل الحروب التي خاضتها واشنطن عبر البحار، المنظور المختلف لروسية عن الحرب جعلها تبقى متأهبة ومستعدة دائماً للمواجهة في سبيل الوطن الأم روسية، في حين كان للأنجلو أمريكية مفهوم آخر عن الحرب، فالحرب بالنسبة لهم هي الافتراس الذي يعود عليها بالمنفعة والفائدة، والذي عادةً ما تغطيه بعباءة الموقف الأخلاقي تماماً كما يحصل اليوم في فنزويلا التي تسعى أمريكا للحصول على نفطها بحجة التدخل الإنساني.
وكخلاصةٍ لما سبق فإننا نجد أن السمكة التي تعرضت للافتراس لا تنسى ما تعرضت له في فترة افتراسها، لكن المفترس ينسى بأنه افترسها ولا يشعر بالخطر الذي مرت فيه، فالمفترس يريد فقط أن يلتهم الفريسة، ولكن الفريسة تريد أن تأكل لتعيش ولتستمر ولتحمي نفسها من الفناء والانقراض، وهذا هو تماماً ما يحصل اليوم فالأنجلو أمريكية بعد عقود من النجاح في الافتراس اعتقدت أنها تستطيع أن تقلل من شأن روسية ولكن روسيا كانت أذكى منها فتجربتها قوت عظمها وحفرت مكانها في ذهنها ووجدانها، وفهمت أن الخطر عندما يحدق بالفريسة فإنها في لحظةٍ معينةٍ عليها أن تخاطر لتحمي وجودها، وعليها أن تحاول بكل ما أوتيت من قوة النجاة مهما كانت التكلفة. تحاول أمريكا دائماً أن تعطينا الصورة المغايرة للحقيقة عن روسيا على لسان جنرالاتها الذين لا ينفكوا عن الحديث عن الترسانة الحربية الهائلة التي تمتلكها روسية، لكن الأكيد أن العالم سيكون في كارثة حقيقية من دون روسيا.