عين المقاومة على القوة الأمريكية الغاشمة
الدكتور سليم بركات
ارتبط مفهوم القوة بنشأة الدولة، وسعت الدول بأساليب ووسائل لامتلاك أكبر قدر ممكن من عوامل هذه القوة لما لها من أهمية من وجهة النظر الواقعية، ولاسيما في ظل نظام عالمي تغيب عنه السلطة المركزية وتكون فيه الدولة القوية هي المتحكمة كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، ولما كانت القوة بشكل عام ليست فعلاً ساكناً، وإنما فعلاً متحركاً يتضمّن العلاقة بين طرفين أو عدة أطراف يتم التعامل فيما بينها، فإن الوسائل والأساليب والإرادات والسلوكيات تلعب دوراً كبيراً في هذا الفعل المتحرك، وربما أدى ذلك إما إلى الحوار وإما إلى الصدام، أو إلى تحديد أشكال تتحرك عبرها وسائل مختلفة في استخدام أساليب القوة. وفي كل الأحوال لا يكون الاستخدام لهذه القوة باتجاه واحد، وإنما يكون على عدة اتجاهات تشمل الفعل والهدف للطرف الفاعل الذي يعتقد أنه الطرف الأقوى، الأمر الذي يؤكد أنّ علاقات القوة لا تكون ثنائية في الكثير من الحالات، وإنما متعددة الأطراف، ولاسيما في هذا العصر المتماهي بتفاعلاته الدولية والمتميز بأنماطه المؤثرة المعقدة، وهذا يعني أنّ ممارسة النفوذ هي ما يميز العلاقات الدولية الراهنة في ظل غياب الأمم المتحدة المصدر العالي للسلطة، والتي تخلت عن السلطة لترضخ إلى النفوذ.
العالم في ظل الهيمنة الأمريكية لا مكان فيه للضعفاء، وهذه حقيقة واضحة تدركها دول العالم، وفي الطليعة دول محور المقاومة النواة الأكثر صموداً في مواجهة الهيمنة الأمريكية، والتي لا تفهم في السياسة الدولية سوى ممارسة سياسة القوة التي تمتلكها، وهي تجعل من هذا الامتلاك هدفها الرئيسي.
إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تفرض هذا المبدأ من القوة من أجل الدفاع عن نفسها فقط، وإنما تفرضه لتفرض سيطرتها على العالم. وبما أن القوة عامل نسبي أكان بالنسبة لأميركا أم كان بالنسبة لغيرها، فعلى إدارتها أن تدرك أن من كان قوياً في مرحلة قد يكون ضعيفاً في مرحلة أخرى، والدليل أن أميركا في حربها السابقة مع فيتنام كانت قوتها أقوى بكثير من القوة الفيتنامية لكنها دحرت أمام الفيتناميين، والدليل الآخر أن الاتحاد السوفييتي السابق كان قوياً في الخارج، لكن هذه القوة لم تحل دون انهياره من الداخل.
القوة العسكرية ليست كل شيء في عالم اليوم، ومن يراهن عليها سيخسر كل شيء. ومع أن مفكري السياسة الغربيين قد اختلفوا في تحديد نوعية السلاح الواجب استخدامه من قبل الدولة التي تعتنق مبدأ سياسة القوة إلا أنهم كانوا متفقين على مجموعة من النقاط في استخدامها، منها أن القوة العسكرية ليست الأداة الفعالة لتحقيق الأهداف المرجوة، ومنها أن الدولة كائن حي قابل للصحة والمرض، وحدوده مرنة ومتحركة في ضوء ما يمتلك من القوة، ومنها لا مكان للدول الضعيفة على خارطة العالم السياسية إذا لم تتخلص من ضعفها وتصبح بين الأقوياء، ومنها أن مصالح الدول في حالة من التناقض، وهذا يقتضي التنافس والتطاحن من أجل المزيد من المكاسب لرعاياها على حساب الآخرين. ومنها أن الدول القوية التي لا تقيم وزناً للقيم الأخلاقية والإنسانية وحتى الروحية لا يمكن أن تحقق أهدافها أو مصالحها عن طريق القوة. والأهم من كل هذا هو اقتناع الدولة الأمريكية صاحبة نظرية القوة الطاغية أن الأرض التي تعيش عليها لا تتسع إلا لها براً، وبحراً، وجواً، إنها من وجهة نظر سياسييها هي الدولة الأقوى التي تتقن الحرب، وأن في ازدراء الحرب يكون السبب الرئيسي في ضياعها وفنائها، كما أن التمرس في الحرب هو السبيل إلى بقائها والارتفاع بشأنها.
ما تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية على العالم من همجية يعد من أبشع أنواع الممارسة، لأنه يطال جميع جوانب الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية.. إنها تتخذ من القوة بحد ذاتها غاية للتأثير في محيطها الخارجي، من أجل تحقيق وحماية مصالحها، أكانت هذه القوة عسكرية، أم كانت اقتصادية، أم كانت سياسية، إن الولايات المتحدة الأمريكية فريسة هذه الممارسة منذ الأزمة المالية التي شهدها العالم في عام 2008 وحتى يومنا هذا.
تفيد متابعة التطورات في منطقة الشرق الأوسط بأن هنالك تحولاً في الاستخدام التقليدي للقوة الأمريكية، والدليل افتعالها أزمة مع إيران، إذ على الرغم من المطالب الإسرائيلية المتكررة لأمريكا في توجيه ضربة عسكرية لإيران ومنذ سنوات، نجد أن هذه الضربة لم تنفذ حتى الآن، مع أن الخيار العسكري الأمريكي مازال مطروحاً. كما نجد هذا التحول من خلال الدعم الأمريكي لما يسمى بالربيع العربي، والذي انتهى بالحديث عمن يمتلك القوة والقدرة في التأثير داخل الدول هل هي الحكومات أم المجتمع أم الشارع، وعلى نحو يشير إلى أن الإنسان قد ولد للبحث عن القوة كما يشير إلى أن امتلاك عناصر القوة لا يكفي من دون سياسة فعالة لاستخدامها، الأمر الذي يؤكد من خلال هذين المثلين أن الجدل الدائر داخل أوساط الإدارة الأمريكية حول استخدام القوة أو تبنيها ضد إيران وباقي محور المقاومة هو جدل عقيم لم يؤد إلا إلى المزيد من عزلتها الدولية وإلى كراهية شعوب العالم لها، وبالتالي ربما اقتنعت إدارتها اليوم، ولاسيما بعد إعلان انسحابها من سورية أنّ لا جدوى من استخدام القوة ويكفي الحديث عن هذه القوة كي تصل الرسالة إلى خصومها بأنها تمتلكها وأنها قادرة على استخدامها، وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية التي نجحت في أن تكون قوة مهيمنة من خلال الحرب الباردة وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي قد فقدت هذا النجاح بعد أحداث أيلول 2001، والدليل فشلها في الحرب على أفغانستان والعراق، ومن ثم تعزيز هذا الفشل بالتهديد العسكري ضد إيران وباقي دول محور المقاومة.
لقد تراجع البعد العسكري للولايات المتحدة الأمريكية لمصلحة البعد الاقتصادي في ظل المتغيرات الدولية الراهنة، وبهذا التراجع أصبحت تعتمد على قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية أكثر من اعتمادها على قدراتها العسكرية في لعبة القوة الدولية، ولاسيما بعد أن وجدت في الضغوط الاقتصادية أكثر فاعلية من التدخلات العسكرية وأقل كلفة في عالم العولمة بالنسبة إليها، إنها تفعل ذلك في تعاملها مع دول العالم معتمدة على إنتاجها المحلي، أكان هذا الإنتاج على صعيد القوة العسكرية، أم كان على صعيد النزعة الانفرادية في استخدام القوة بعيداً عن المؤسسات والتنظيمات الدولية، هذا بالإضافة إلى امتلاك العامل التقني والتكنولوجي المتطور، الأمر الذي مكنها من أن تصبح قوة عالمية تتمركز فيها القوى الغاشمة إذا أراد قادتها لها أن تكون قوة غاشمة، لا قوة عادلة تليق بسمعتها كدولة عظمى، وإذا ما أخذنا بالاعتبار العلاقة بين هذه القوة الأمريكية متعددة الجوانب وبين قوة الجيوبوليتيكس (المجال الحيوي للدول) الذي تتمتع به أمريكا وجدنا مدى التأثر الاستراتيجي للمنظرين الأمريكيين بمنظرين استراتيجيين سابقين، ومنهم هيرودوت من424 ق.م إلى 485 ق.م والذي ربط في مؤلفاته (بين سياسة الدولة وجغرافيتها)، ومنهم مونتسكيو 1689م- 1755م، والذي بيّن في كتابيه روح القوانين، والدفاع عن روح القوانين في عام 1750م (الأسباب الكامنة خلف القوانين في بلد معين، وبين صلة ذلك بالمناخ والبيئة، والعوامل الطبيعية مثل البحار والمحيطات، ومدى تأثير ذلك بالمناخ السياسي والاقتصادي للدول). زد على ذلك تأثر السياسة الأمريكية، ولاسيما في عصر ترامب بنازية ادولف هتلر مؤسس المجال الحيوي للدولة الألمانية والذي (ربط بين العوامل الجغرافية وبين النهج السياسي للدولة) والذي ظهر في كتابه (كفاحي) الذي نُشر للمرة الأولى عام 1925، الأمر الذي يؤكد أنه لا يوجد مكان واحد محميّ اليوم على سطح المعمورة من مخاطر العنف والإرهاب الأمريكي الغاشم، الذي لا يقتصر على الدوائر الدولية الرسمية فيما يخص القوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، وإنما على عناصر الحياة كافة التي تتلاعب فيها القوة الرأسمالية الاقتصادية المدمرة والمؤسسة على القرصنة والإرهاب.
بقي أن نقول: خير ما تتعامل فيه الإنسانية اليوم مع الهيمنة الأمريكية هو التمرد عليها والتخندق في مواجهتها، وإذا كان التمرد هو وسيلة العلماء والمصلحين في العصور السابقة لتحطيم العبودية والقضاء على الجهل المبرمج، فإن تمرد اليوم يمثل التمرد العقلاني في مواجهة اللاعقلاني الذي تمثله أمريكا ومن يغرد في سربها، وهل نجانب الحقيقة إذا قلنا أن المتمرد وإن كان حبيس أفكاره النقدية إلا أنه يسعى وبشكل طبيعي إلى إيجاد تحالف بين الفكر المتمرد والجماهير المتمردة محولاً هذه الجماهير إلى قوة فاعلة ومبدعة، وهل نجانب الحقيقة أيضاً إذا قلنا أن هذه الفاعلية وهذا الإبداع هما خيار محور المقاومة بعد أن اقتنع هذا المحور ومن خلال المواجهة بأنه ليس بمقدور أمريكا وحلفائها أن يفعلوا أكثر مما فعلوا من حروب عسكرية، واقتصادية، وإعلامية.. انهكت المنطقة وجوعت شعوبها، ومع كل ما فعلوه بقوا هم وإرهابهم مهزومين ليس على مستوى المنطقة فحسب وإنما على مستوى العالم، الأمر الذي يؤكد أنهم وقوتهم الغاشمة نحو الأفول.