ثورة الثامن من آذار الأصالة والصمود
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
لا ريب أن احتفالنا بذكرى ثورة الثامن من آذار لهذه السنة يحملُ دلالة تاريخية خاصة بالغة الأهمية، وهي دلالة الانتصار على فصل إضافي من فصول التحدّي الامبريالي– الصهيوني– الرجعي في أشدّ حلقاته خطورة، ذلك أن هذا التحدّي كان قائماً طوال الوقت، بل إن ثورة الثامن من آذار في حدّ ذاتها جاءت كردٍّ ثوريّ على هذا التحدّي بعد أن وصل تآمر الثالوث إلى إجهاض تجربة الوحدة الأولى من خلال جريمة الانفصال في 28 أيلول عام 1961. ومنذ ثورة الثامن من آذار وحتى الآن تواصلت أشكال التآمر وأخذت أنماطاً متعدّدة، إلا أن المؤامرة الأخيرة كانت أكثرها حدّة وأشدّها نكاية، حيث استغل الثالوث الشيطاني فيها كلّ أدواته وشتّى ألوان مكره.
لم تكن ثورة الثامن من آذار هي التحوّل الثوري الوحيد أو الأول الذي شهده الوطن العربي خلال القرن الماضي، فقبل هذه الثورة كانت هناك ثورة 23/ تموز 1952 في مصر، ثم ثورة 14 تموز في العراق، وهي الثورة التي صادرها عبد الكريم قاسم وانحرف بها عن خطها القومي، ثم أعقبتها ثورة 8 شباط عام 1963 التي فجّرها الرفاق البعثيون في العراق. وكان اليمن قد شهد بدوره ثورة 26 أيلول عام 1962 التي أنهت نظام الإمامة التقليدي. وكذلك كان هناك نموذج الثورة الجزائرية التي نجحت في تخليص القطر الجزائري من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني. وجاءت بعد ذلك ثورة الفاتح من أيلول في ليبيا بزعامة العقيد معمر القذافي.
لكن التطورات اللاحقة لمرحلة هذا الحراك الثوري، وما وصلت إليه هذه التطورات، وخاصة خلال العقدين الأخيرين من الزمن، من شأنها أن تطرح السؤال الكبير حول مآلات هذه الثورات، وكيف نجحت القوى المعادية في الإجهاز على بعضها، وكيف استمرت المحاولات الرامية للإجهاز على بقيتها بأساليب متنوعة. ومن المؤسف القول بأن ثورة 23/ تموز في مصر كانت أول الثورات التي تعرّضت للتقويض بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر وتولي السادات الرئاسة، وانقضاضه على ما سمّاها بمراكز القوى، وتقويضه لتجربة الاتحاد الاشتراكي العربي الذي عمل عبد الناصر على تطويره ليكون طليعة ثورية شعبية تتبنى أهداف الثورة في الحرية والاشتراكية والوحدة، ثم ذهابه إلى توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مع العدو الصهيوني مخرجاً مصر من الصراع العربي– الصهيوني، حيث تحوّلت هذه الاتفاقيات إلى قيود تكبّل إرادة مصر وتجهز على دور مصر القومي. ولقد رأينا بعد ذلك، وفي إطار الهجمات الامبريالية– الصهيونية– الرجعية على وطننا العربي كيف تمكّنت القوى المعادية من تقويض نظام صدام حسين في العراق وصولاً إلى إعدامه، ومن تقويض النظام الجماهيري في ليبيا واغتيال القذافي، وكيف جرت محاولة استهداف الثورة الجزائرية باعتماد عصابات الإرهاب التكفيري الإسلاموية، وما زالت محاولات استهداف الثورة الجزائرية مستمرة. ولعلّ آخر مؤشر في هذا الاتجاه ما نشرته صحيفة الشرق الأوسط السعودية التي تصدر في لندن منذ أيام تحت عنوان أن النظام الجزائري يلوّح بالسيناريو السوري، وهو العنوان الذي يرجح محاولة القوى المعادية استغلال ذات الأساليب التي اعتمدتها في التآمر على سورية باستهداف الجزائر هذه المرة. وفي موازاة الحرب الكونية التي شنّها الثالوث الشيطاني على سورية كانت الحرب العدوانية الغاشمة التي شنّها على اليمن من خلال التحالف السعودي، وما زالت هذه الحرب مستمرة رغم الآثار المأساوية التي خلفتها بالنسبة للشعب اليمني.
خديعة “صراع الحضارات”
في الواقع أن هذه التطورات في الوطن العربي ومناطق العالم الأخرى شكّلت جزءاً ممّا أطلق عليه منظرو الغرب كاذبين تسمية “صراع الحضارات”. فبعد حرب أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، والتي تواكبت مع الحرب التي شنّها صدام حسين على إيران بتحريض من الأنظمة الرجعية الخليجية ومن يسيّرونها، كان التطور الأبرز والأخطر الذي شهده العالم آنذاك متمثلاً بتفكيك الاتحاد السوفييتي، وبانتهاء ما كانت تعتبر فترة الحرب الباردة بين الشرق والغرب وما فيها من توازن. وكانت الأنظمة الثورية في العالم بشكل عام تجد السند في الاتحاد السوفييتي، أو على الأقل القوة الكابحة لأهواء التسلط الامبريالي. وبتفكيك الاتحاد السوفييتي ودخول روسيا مرحلة إعادة البناء صار بوسع المعسكر الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة أن يتصرف على نحو يحقّق فيه غاياته في العالم دون أن يحسب لردود الفعل الدولية أي حساب.
تصف صحيفة الصنداي تايمز البريطانية في عددها الصادر يوم 12 تشرين الأول 2001 ما آل إليه الوضع على الصعيد الدولي مع بداية التسعينيات من القرن الماضي، فتقول “وقد أصبحت القرارات التي تتخذ في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، أو في صندوق النقد الدولي، والتي تعكس مصالح الغرب، تعتبر انعكاساً لرغبات المجتمع الدولي، وهو التعبير اللطيف الجماعي الذي حلّ محل “العالم الحر” لإعطاء الشرعية العالمية للأعمال التي تعكس مصالح الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى”. ولقد ظل هذا الوضع قائماً في مجلس الأمن الدولي إلى ما بعد بدء أحداث ما سُمّي زوراً بالربيع العربي عام 2011، ولنتذكر أن القرار المتمثّل بالتدخل في ليبيا قد اكتسب الصفة الدولية بمروره في مجلس الأمن الدولي، وأن الولايات المتحدة ومن يسيرون في ركابها كانوا يعتقدون أنهم سيتمكنون من إدارة المؤامرة على سورية مستندين إلى مجلس الأمن القومي مرة أخرى، وزاعمين تمثيلهم للإجماع الدولي لولا أنهم فوجئوا بالفيتو المزدوج الروسي– الصيني وتكرار هذا الفيتو في مناسبات عديدة، بعد أن كشف العبث الغربي بليبيا عن خطورة المخطّط الذي تتولى الولايات المتحدة تنفيذه في العالم. كما أن دخول روسيا عام 2017 على خط المواجهة العملية للإرهاب جاء مفاجئاً للمخطط الامبريالي– الصهيوني– الرجعي الذي وظّف الإرهاب التكفيري في خدمة مؤامرته، وتذرّع بمحاربة هذا الإرهاب أو ذلك الجانب منه المتعلق بـ”داعش” لتبرير تدخله.
في الواقع أنه مع نهاية الحرب ضد القوات السوفييتية في أفغانستان، لأن الحرب بين الأطراف المتناحرة في أفغانستان لم تتوقف منذ ذلك الحين وحتى الآن، وقد ذهب ضحيتها الملايين من الأفغان، كان هناك فائض كبير من الإرهابيين التكفيريين الذين جرت تعبئتهم لتلك الحرب، والدليل القاطع على ذلك أنه ما إن غادرت القوات السوفييتية أفغانستان، وما إن جرى تفكيك الاتحاد السوفييتي حتى وجدنا يوغوسلافيا تغرق في حرب تتداخل فيها الاعتبارات الطائفية والعرقية، وهو الأمر الذي أدى إلى تفكيكها، بل وإلى غياب اسم يوغوسلافيا وكأنها لم تكن قائمة، مع العلم بأن يوغوسلافيا بقيادة جوزيف بروز تيتو كانت تمثل نموذجاً اشتراكياً خاصاً يتمسّك في سياسته بالحياد الإيجابي وعدم الانحياز، حتى أن تيتو كان رائد تشكيل هذا التجمع الدولي إلى جانب عبد الناصر والرئيس الاندونيسي سوكارنو والزعيم الهندى جواهر لال نهرو. وكانت المذابح التي شهدتها يوغوسلافيا دليلاً قاطعاً على مدى القوى الامبريالية والرجعية التي وظّفت لتمزيق يوغوسلافيا، بغض النظر عن انتماء هذه القوى لهذا الطرف من الأطراف المتقاتلة أو ذاك.
في ذلك الحين خرج الصهيوني برنارد لويس الأستاذ في جامعة برنستون وصاحب خرائط الشرق الأوسط الجديد يصف ما يحدث أو يتوقع أن يحدث في العالم باختصار شديد، فقال: “إننا نواجه اتجاهاً وحركة يتجاوزان مستوى القضايا والسياسة والحكومات التي يجري تتبعها الآن. فما يحدث ليس أقل من نزاع بين الحضارات، ربما يكون نزاعاً غير عقلاني لكنه يمثل بالتأكيد رد فعل على التنافر القديم ضد تراثنا اليهودي– المسيحي وضد حاضرنا العلماني وضد التوسع العالمي لهذين التراثين”.
دعونا نقول إن كلام برنارد لويس هذا ليس توصيفاً لما يتوقع، بل محاولة لتأطير ما يحدث، ولتزوير صورة ما يحدث. وهكذا ألصق ما ادّعاه التراث اليهودي بالتراث المسيحي، ولكن الغربيّ منه حصراً، وادعى أن الشرق هو الذي يستهدف الغرب، مخالفاً بذلك الحقيقة التي يعرفها العالم بأجمعه ويسلّم بها حتى الغرب نفسه، وهي أن الدول الاستعمارية الغربية ومنذ قرون عديدة تستهدف الآخرين في آسيا وإفريقيا. ورغم أن هذا الحديث عن تراث مسيحي– يهودي يتنافى مع ادّعاء العلمانية إلا أن المصلحة اليهودية تقتضي استغلال دعوى العلمانية أيضاً.
والواقع أنه وفق تصنيفات برنارد لويس هذا وأمثاله، وجد العالم نفسه في تسعينيات القرن الماضي بمواجهة تحريض وتعبئة لتفجير الصدامات في العالم كله، وهذه التعبئة حاولت استغلال كل عرق أو دين أو مذهب على نحو يتنازع فيه الجميع معاً دون استثناء.
تصف صحيفة الصنداي تايمز ما حدث في بدايات تلك المرحلة فتقول إنه على الحدود الشمالية للإسلام اندلع النزاع وتصاعد بين الشعوب التي تدين بالإسلام والأخرى التي تدين بالمسيحية الأرثوذكسية. ووقعت المذبحة ضدّ البوسنيين وسكان سراييفو المسلمين، ووقعت أعمال العنف بين الصرب والألبان، وتوترت العلاقات بين البلغاريين والأقلية التركية في بلغاريا، ووقعت أعمال العنف بين الأوسيثيينو “الإينغوش” وبين الأرمن والآذريين، وبين الروس والمسلمين في آسيا الوسطى وانتشرت القوات الروسية لحماية المصالح الروسية في القفقاس وآسيا الوسطى. وتقول الصحيفة فوق ذلك بأن النزاع بين الحضارات يمدّ جذوره العميقة أيضاً في آسيا. فالنزاع التاريخي بين المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية لا يعبّر عن نفسه الآن في العداء القائم بين باكستان والهند فحسب، بل في ازدياد النزاع الديني داخل الهند نفسها بين المجموعات المسلحة الهندوسية والأقلية المسلمة هناك. وفي شرقي آسيا ثمة نزاعات على الأرض والحدود بين الصين ومعظم جيرانها، والصين تتبع سياسة قاسية تجاه شعب التبت {البوذي} كما تتبع سياسة قاسية ضد الأقلية التركية المسلمة داخلها. ووفق ما تذهب إليه الصحيفة أيضاً فإن العنف يجري استخدامه أيضاً بين المسلمين من جهة، والصرب الأرثوذكس في البلقان، “واليهود في إسرائيل”- ولنلاحظ هنا التعبير المغلوط والمغالطة التي جرى زجها في السياق لخداع القارئ، وكأن المقاومة اضطهاد يمارسه عرب فلسطين ضد اليهود مع ذكر اسم إسرائيل دون إيراد اسم فلسطين، لعلّ التعمية على القارئ تتمّ بكل بساطة خاصة إذا كان جاهلاً بالأحداث وغير متتبع لها.
ولنكمل الجهات المرشحة للعنف فهي تشمل أيضاً الهندوس في الهند، والبوذيين في بورما، والكاثوليك في الفيليبين، فالبلدان الإسلامية محاطة –وفق منطق الصحيفة– بحدود دموية. ولا ندري في الواقع من هو الطرف الدموي في هذه القصة طالما أن الكل متهم بمعاداة الآخر. لكن هذا التوصيف الكاذب للواقع في العالم كان أمراً لا بد منه لتبرير العملية التي أسهمت فيها أطراف متعددة، ومنها دول عربية وإسلامية، في تجنيد الإرهابيين التكفيريين الإسلامويين، وزجهم للقتال في أي مكان تسعى المخابرات المركزية الأمريكية بالذات إلى إغراقه بالدماء.
وإضافة إلى ما سبق من تصنيف وتوصيف، بوسعنا أن نكتشف مع الغرب المضلّل أن الحضارة الإسلامية أصبحت متنافرة مع الشعوب السوداء المسيحية في جنوب الكرة الأرضية، وأن هذا التنافر في الماضي كان يتلخّص في صورة تجار العبيد العرب والعبيد السود، ولننسَ أن غالبية تجار العبيد هؤلاء –إن لم يكن الكل كما يعرف الناس في العالم منذ زمن بعيد- كانوا من اليهود. ففي السيّئات والمثالب يمكن إخفاء الصفة اليهودية كلياً وأن تنسب إلى العرب أو المسلمين مثل هذه الصفات. وقد عكس هذا نفسه –حسب زعمهم– على الحرب في جنوب السودان مدعين أنها بين البيض والسود. لكننا نعرف أن هذه الحرب زادت اشتعالاً بعد انفصال جنوب السودان، وأنها تدور بين أبناء جنوب السودان، وكلهم من السود، بينما يحاول الشمال أن يساعد على وقف هذه الحرب. ومن الطريف أن نجد الغرب يبتكر تعبير المسلمين الأرثوذكس الأفارقة ويزعم أن توترات تقع بينهم وبين المسلمين في القرن الإفريقي، وفي العنف الطائفي بين المسيحيين والمسلمين في نيجيريا. ولم يبقَ إلا أن يصف المسلمين المستهدفين من المسلمين الأرثوذكس حسب تصنيفه بالمسلمين الكاثوليك، ليكون بوسع الجمهور الغربي على الأقل فهم ما تعنيه ادّعاءات الإعلام الغربي.
كذبة الإعلام الغربي
إن الأمر المثير للدهشة ونحن نتعقّب مثل هذه التصنيفات في وسائل الإعلام الغربية أوائل القرن الحادي والعشرين، أن نجد وسائل الإعلام هذه تتحدث عن مسلمين ومسلمين أرثوذكس، ولكنها كانت تبتعد بشكل عام عن الحديث الذي سيطر على خطابها الدعائي في العقد الثاني من هذا القرن، وهو التمييز بين السنة والشيعة، والتحريض على الوقيعة بينهما. ولعلّ السرّ في ذلك يكمن في أن الغرب كان في تلك الفترة يمهّد لغزو العراق، ويحتاج بالتالي إلى خطاب دعائي يمكّنه من خداع الشعب العراقي من الشيعة والسنة. ولعلّ هذا أيضاً كان أحد الأسباب في ندرة الحديث عن الأكراد بمقابل المكونات الأخرى. فمحاولات الإيقاع بين المكونات المذهبية والطائفية والعرقية تسير على نحو متناسق مع خطط الاستهداف العملي.
حين نضع في اعتبارنا الحقيقة القائلة بأن سورية كانت مستهدفة من قبل الأطراف المعادية، ومنذ زمن بعيد، لا بد لنا وأن نسلّم بأن محاولة القضاء على الثورة الإسلامية في إيران، ولو بالاعتماد على نظام صدام حسين، كانت ضرورة إستراتيجية لخدمة كلٍّ من الإستراتيجية العالمية الأمريكية والإستراتيجية الصهيونية. وبعد أن فشلت هذه المحاولة صار الإجهاز على النظام القائم في العراق واحتلال العراق ضرورة لهذه الإستراتيجية بغرض تجريد سورية من احتمالات دعم العراق وتشكيل عمق استراتيجي لها أولاً، وبغرض جعل العراق يشكل حاجزاً جغرافياً بين إيران وسورية ثانياً. وفي هذا السياق نستطيع أن نفهم المغزى العملي لمحاولة القضاء على المقاومة اللبنانية متمثلة بحزب الله عام 2006 بعد الاحتلال الأميركي للعراق. فمثل هذه المحاولة هي جزء من محاولة محاصرة سورية. وهذه المحاصرة كان لا بد لها وأن تضع في اعتبارها الوضع القائم في تركيا ودوره. ومن الواضح أن الوضع في تركيا جرى ترتيبه على نحو يكفل التكامل مع جماعة الإخوان المسلمين ليس فقط في سورية ولكن في مختلف الأقطار العربية أيضاً. وهو ترتيب كان جزءاً من سياق الترتيبات التي مهّدت لمؤامرة “الشرق الأوسط الجديد”، التي بدأت تحت العنوان المخادع عن “الربيع العربي”، ولم يرَ مدبّروها مشكلة في أن تبدأ باستهداف أنظمة موالية لواشنطن في البداية مثل نظام زين العابدين بن علي في تونس ونظام حسني مبارك في مصر. لكن الهدف الرئيسي لهذه المؤامرة الشيطانية كان في الواقع تمكين إسرائيل من التوسع بين الفرات والنيل، وكان القضاء على النظام السياسي بل وعلى البنية السياسية لكل من ليبيا وسورية أحد الأبعاد الأساسية في المؤامرة. وبالطبع، فإن سورية بحكم موقعها الاستراتيجي من جهة، وبحكم قدراتها في حسابات الصراع، وبحكم تكوينها العقائدي كانت الهدف الأهم الذي لو تمكّنت المؤامرة منه لشهدنا بعد ذلك تتابع فصولها لتمزيق المنطقة العربية وربما محيطها أيضاً شرّ ممزق.
“سورية الله حاميها”
ولكي نفهم حجم وخطورة التحدّي الذي واجهه القطر العربي السوري دعونا نعود بالذاكرة قليلاً إلى الوراء. فمع بداية الحرب الكونية على سورية واتضاح جزء من معالمها، وقف الرفيق القائد الرئيس بشار الأسد ليقول بروحية المؤمن بالانتصار “سورية الله حاميها”.
لعلّ هناك الكثيرين ممّن لم يستوعبوا في تلك اللحظة من الزمن دلالة هذا القول. فالرفيق القائد بشار الأسد لم يشأ أن يضع الناس في صورة التحدّي الكبير وأبعاده والمخاطر الكبيرة التي يتصدّون لها، أو أن يدخل في تفاصيل التدابير التي يتمّ اعتمادها لمواجهة الحرب التي تُشنّ على القطر، تاركاً كل هذه التفاصيل تجد طريقها إلى التفاعل والتأثير ضمن الزمن المنطقي. وفي مثل هذه الحالة، فإن السلاح الأقوى في مواجهة الهجوم الذي يستهدفنا هو الإيمان. وهذا الإيمان يبدأ من الإنسان عندنا أولاً، ويعتمد على روحية هذا الإنسان في الصمود والتصدي والمقاومة ثانياً. وخير مدخل للتعبير عن هذا الإيمان يتمثّل بالقول “الشام الله حاميها”، حيث إن إرادة الإنسان في هذه الحالة تكون مرتهنة لإرادة الرحمن. والرحمن لا يخذل المؤمنين به وبنصرته لهم. فالإرادة الإلهية وتوكيل الأمر لها في هذه الحالات هي التي تلهمنا الصبر في مواجهة المكاره، مثلما تمنحنا القدرة على الصمود في مواجهة التحديات، وتجعلنا نتقبّل وبروح من الرضا والتسليم ما يتوجّب علينا من تضحيات. ثم إن هذه الإرادة هي التي تؤلّف القلوب من حولنا ليتعزّز صمودنا بحلفاء وأصدقاء يقفون إلى جانبنا، كما أن هذه الإرادة هي التي تهب لقادتنا الحكمة في إدارة الصراع، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
إننا حين نفكر جيداً فيما حدث في البداية، وما آلت إليه الأمور في المراحل اللاحقة، نكتشف أن وراء مقومات الصمود والنصر التي تحقّقت نهج سادته الحكمة اتبعته ثورة الثامن من آذار منذ الأساس وواصلته في كل مراحل الصراع. فالعلاقة مع روسيا كانت امتداداً للعلاقة التاريخية مع الاتحاد السوفييتي، حافظت عليها ثورة الثامن من آذار رغم ما طرأ على الاتحاد السوفييتي من تحولات، وما واجهته روسيا في بداية التحولات من صعوبات. وكذلك هي العلاقة مع الصين، اتصفت طوال الوقت بالثبات. والعلاقة مع روسيا والصين أوجدت لنا رصيداً نعتمد عليه في مجلس الأمن بمواجهة الاستكبار والاستفراد الأميركي، وما هو أكثر من ذلك، وهو الزعم بأن “التحالف الأميركي” هو “المجتمع الدولي”. فالفيتو الروسي– الصيني المزدوج، والذي تكرّر في مجلس الأمن أكثر من مرة، بمواجهة المحاولات الأمريكية لاستصدار قرارات تخدم الخطة الشيطانية، كان تحولاً مهماً للغاية أسهم في تقوية موقفنا في الصراع. ثم إن العلاقة مع الثورة الإسلامية في إيران نشأت منذ لحظة انتصار الثورة بقيادة الإمام الخميني عام 1979، وكذلك هي العلاقة مع حزب الله كانت علاقة عضوية متواصلة من خلال الدعم السوري للمقاومة في لبنان منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي بمواجهة الغزو الصهيوني. فهذه العلاقات التاريخية الثابتة إذن كانت عناصر قوة وشكلت أساس تعاضد مكّننا من مواجهة الإرهاب وداعميه والتغلب على كل الأساليب التي اعتمدوها في تآمرهم علينا.
ورغم وجود هذا الرصيد الكبير المتمثّل بمحور المقاومة والتحالف ضد الإرهاب، إلا أن العامل الأهم، والذي كان لا بد منه، هو أن تصمد سورية في وجه العاصفة، وأن تثبت قدرتها على الصمود، وأن تدع المعطيات الميدانية تكشف الأقنعة عن حقيقة ما يحدث، وطبيعة وحجم الصراع، والقوى الفعلية القائمة على تحريك هذا الصراع وغاياتها. وبالتالي أن تتوفر القناعة لدى الحلفاء والأصدقاء بأن عليهم أن يسهموا بشكل عملي مباشر في المساعدة على صد الهجوم، ومواجهة أدواته بكل قوة وفاعلية. وهذا ما كان. وإذا كان التصدّي في البداية معتمداً على الإيمان الصوفي والشعور العام بطبيعة الخطر الذي يتهدّد القطر والأمة، إلى أن يتمّ استجماع قوى التصدّي بما يجابه ما حشده الأعداء من قوى، فإن الشعار الذي اجتمع حوله أبناء الوطن والذي أطلقه القائد العظيم الصامد وهو “سورية الله حاميها” كان يعني ولا يزال أننا في موقف الدفاع المشروع عن النفس بمواجهة قوى شيطانية معتدية، وأن الإرادة الإلهية لا تكون إلا إلى جانب العدالة والحق.
إنها عوامل الأصالة والصمود في ثورة الثامن من آذار هي التي مكّنت شعبنا في ظل هذه الثورة من مواجهة كل التحديات، بما في ذلك التحدي الأخير الذي جنّد له الأعداء “ائتلاف الثمانين” و”تحالف الستين”، ولكن إرهابييهم الذين جلبوا بعشرات الآلاف سقطوا قتلى أو ارتدوا خائبين أو باتوا ينتظرون نهايتهم التي لا بد منها.