فـي رحيـــل فايــــز مقدســــي.. مــن ســوريــة ولــد التاريــخ
“لأن الإنسان لا يتقدم نحو الأمام إن كان لا يعرف ما خلفه، فإن كتابة التاريخ هي أن نعرف من سبقنا بالوثائق المكتوبة لنتخلص من كل الأكاذيب الشفهية المنقولة والمتداولة عبر الزمن لضمان غد سليم، فلا مستقبل مشرق بلا ماضٍ صحيح. والتاريخ هو معرفة الذات بكل ما فيها من خبايا وأسرار، حيث إن الذاكرة البشرية تحتفظ بما حدث، لكنها كما يقول “علم النفس” بحاجة إلى حافز يدفعها إلى العمل من جديد، ومن لا يمتلك تاريخاً له، فهو كاليتيم، والمؤرخ الحق هو الذي يبحث عن الحقيقة، وليس عن تعظيم عقيدة أو تكذيب مذهب، أو تحوير قصة، وإنما البحث عن الحقيقة الصرفة التي لا تشوبها شائبة”.
نزع الغبار
هذا ما شكل إيمان فايز مقدسي الشاعر والكاتب، الإعلامي والباحث أولاً وأخيراً، قامة سورية هامة فقدناها قبل أيام، الباحث الذي دأب طويلاً على النبش والتفتيش عن الحقيقة التاريخية المخفية تحت أطنان من غبار الزمن والتي عمل المغرضون أصحاب النزعات المشبوهة دون إزالتها، استعار مقدسي من الزمن آلته وعاد بها قروناً من السنوات إلى الوراء إلى زمن الحضارات السورية القديمة، ولعله التقى جدوده القدماء من أبناء سومر وبابل، أبناء كنعان وفينيقيا وآشور، التقاهم حثيّين وقبارصة وأموريين، ليعود من رحلاته المتتالية بيقين أن أبناء سورية الذين عاشوا على ترابها منذ آلاف السنوات وصولاً إلى حاضرنا اليوم ما هم إلّا نتاج مزيج رائع من حضارات وشعوب ولغات وثقافات متعددة ومتنوعة تمازجت عبر تاريخ طويل من الحياة المشتركة، لتتداخل وتتمازج أفكارهم وعاداتهم وتقترب من بعضها البعض لتشكل هذه الوحدة الاجتماعية والشخصية المتفردة على الأرض الواحدة.
يشرح في واحد من حواراته بلسان الباحث العارف: “تشير الوثائق المكتوبة والمكتشفة اليوم حول الكثير من المدونات المسمارية والأبجدية في كل أرجاء “سورية” الطبيعية، إلى زيف العديد من الأحداث والقصص، حيث تحتوي المناهج الكثير من اللغط، كما أن هناك الكثير من الكذب في كتب بعض المؤرخين الذين لهم هدف عقائدي لا علاقة له بالتاريخ الصحيح، وقد سعيت في كل أعمالي إلى نفض الغبار والغشاوة التي تشوه الحقائق وتغير الوقائع”.
عوالم سحرية
في طفولته اختبر ابن مدينة صافيتا الذي ولد في دير الزور سنة 1949، اختبر جغرافية معروفة بغناها وتنوعها، حيث عمل الوالد، مما أتاح فرصة التنقل المستمر في العديد من البقاع السورية، ولهذا فإن صاحب النزعة الانفرادية -كما اعترف دائماً- كان يكرس نزعته تلك للبحث عن أسرار الموجودات من حوله، بعيداً عن اللعب واللهو متعة الصغار عادة، أنصت إلى حكايات جدته التي فتحت له أبواب عوالم السحر والغرائب الأسطورية فكان لها الأثر الكبير على حياته، وأضاف إليها متعة القراءة والدخول في عوالم الكتابة الشعرية التي ابتعد فيها عن المألوف متجهاً إلى نوع من الغموض، واستخدام الكلمات الغريبة غير المتداولة سعياً لامتلاك أسلوبه الشعري المتفرد.
أتم مقدسي دراسته الثانوية في مدينة حلب، في العام 1972 انتقل إلى باريس/ فرنسا طلباً لدراسة التاريخ حيث نال دبلوماً في التاريخ العربي القديم واللغات السامية المقارنة من السوربون والجامعة الكاثوليكية، كما عمل على دعم معارفه الأكاديمية بتعلم اللغات الأجنبية فأتقن الإنكليزية، الألمانية والإيطالية إلى جانب الفرنسية، الأمر الذي أتاح له الاطلاع على الكثير من الكتابات والمدونات الغربية حول تاريخ الشرق الأوسط القديم واكتشاف الكثير من الكتابات المذهلة المتعلقة بها، فنّد بعضاً من أكاذيبها وأضاف الكثير من الحقائق التي توصل إليها بعد أن عمل طويلاً لكشف الغطاء عن تاريخ سورية القديم بجغرافيتها الطبيعية بعيداً عن سايكس بيكو بإيمان الواثق من أنه “من هنا من سورية ولد التاريخ” عاملاً على تقديم كل ما توصل إليه من معارف للجميع وإيصال أبحاثه القيّمة التي تؤكد أن تاريخنا لا يتوقف على ما يظنه الآخرون: “إن من يدرس التاريخ القديم على صورة صحيحة، ليس فيها تأثير ديني أو عقائدي معين، وكأنّ تاريخنا بدأ في القرن السابع للميلاد، وليس قبل الميلاد بآلاف السنين!. نلاحظ هنا أمراً هاماً وهو أن تاريخنا كسوريين، لا يقوم على العلاقات القبائلية، ولا على الأنساب، بل على بناء ثقافي فكري فلسفي مادي روحي عز نظيره”.
رحلة مع الإذاعة
في العام 1989 انضم مقدسي إلى فريق العمل في إذاعة مونت كارلو” كمعد ومقدمِ للبرامج، فكانت رحلته الإعلامية حافلة بالعطاء، امتدت ما يزيد على عقدين من الزمن، حيث ارتبط اسمه بعدد من البرامج الهامة المخلدة في ذاكرة مستمعي الإذاعة كان أهمها برنامج العوالم السحرية الذي أتاح للمستمعين التواصل معه عبر الرسائل، بالإضافة إلى حكاية حجر الذي تحدث فيه عن الأساطير القديمة، السورية أو المصرية، أو العراقية… الخ، وعن التاريخ القديم أيضاً دروب القمر، مسافات، وكان ضيوفه بشكل خاص من أهم الشعراء، فصول، أمواج، سوناتا ليلية، أفكار، أنتم والنجوم استضاف فيه نجوم الغناء والموسيقى من شباب العالم العربي، وآخرها برنامج حوار. عرف عنه انتقاء ضيوفه بعناية فائقة والتواصل مع مستمعيه بحنكة وذكاء مكنته من تقديم جلسات حوارية امتزجت فيها المعرفة الغنية بالمتعة التي توجه بها بصوته المميز إلى جمهور كبير متعطش إلى هكذا نوع من الحوارات والنقاشات المتميزة.
وأخرى مع الشعر
إلى جانب اهتماماته الرئيسية في البحوث التاريخية اختار مقدسي أن يعلي شأن الإنسان في كتاباته الشعرية وكشف جوانب غير معروفة منه بعد، معتمداً الجمال المطلق للنص الشعري، فيكون البحث في الشكل أولاً ثم يأتي المعنى ثانياً، ابتعد فيه عن المألوف متجهاً إلى نوع من الغموض، واستخدام الكلمات الغريبة غير المتداولة سعياً لامتلاك أسلوبه الشعري المتفرد. بينما أشار غير مرة إلى أن “مشكلة الشعر في اللغة العربية قديمه وحديثه رضوخه لثرثرة لا تنتهي”.
“ولقد قلت للوردة القرمزية: أيتها الوردة الملكة/اجعليني أرى جمالك.
قالت: أنا جمالك الذي إن لم تره فلن ترى جمالي!
اكتب المستقبل وكأنه ذكرى ما مضى/وتذكر الماضي وكأنه ما سوف يحدث!
ثم قالت: ما سمعته ورأيته لا تبح به لأحد إلاّ في شعوذة لا مثيل لها”.
ومن خلال نظريته تلك قدم تجربته الأولى “سيمياء- أبجدية الأفعى” التي صدرت في باريس باللغة العربية مرفقة بترجمة إلى الفرنسية، أتبعها بكتابه “حبل بلا دنس” الذي صدر من بيروت، ومن دمشق أصدر كتابه الثالث تحت عنوان “الحياة السحرية” بالإضافة إلى كتبه: “عدل” “بعل وموت” و”الأصول الكنعانية للمسيحية” “قصائد أوغاريتية” و”الساعة الناقصة”.
اللغة والترجمة
آمن مقدسي أن “اللغة تسمح لنا أن نلج إلى بواطن الأمور” وإلى جانب عدة ترجمات بالعربية عن كثير من الشعراء الأوربيين أتاحت له معرفته باللغات الشرقية القديمة ترجمة العديد من القصائد الشعرية سواء باللغات التركية أو الفارسية والأوغاريتية أو الكنعانية والسومرية ومقاطع من الهايكو الياباني ومن الشعر الصيني الكلاسيكي القديم، يدفعه إلى ذلك توق إلى تقديم المعرفة والمعلومة التاريخية في قالب من المتعة والسحر الحاملة لأفكار الأقدمين المحملة أحياناً على شكل قصائد كقصيدة يوم الفرح العظيم السومرية:
في اليوم الذي يكف فيه الإنسان
عن استغلال أخيه الإنسان
وتزول الضغينة
وتسود اللطافة
وحيث يدب المسافر على الطرق النائية دونما خوف أو جزع
وحيث يتخلص سكان المعمورة من الآلام والأوجاع
وحيث لا يعود يشع سوى النور
وحيث تختفي قوى الظلام من الأرض
في هذا اليوم
وفي هذا اليوم فقط
سوف يحيا الجميع في غبطة لا مثيل لها
وفي فرح عز نظيره.
إلى جانب البحث التاريخي والعمل الإذاعي خاض الباحث والمؤرخ فايز مقدسي مجال التعليم إذ عمل في تدريس اللغة العربية، وله مساهمات عديدة في الصحافة حيث قدم عدداً كبيراً من الأبحاث التاريخية التي نشرت في عدد من الصحف كمجلة المعرفة السورية.
بشرى الحكيم