البؤساء على شارات المرور
ما من شارع في العاصمة أو حتى زقاق أو حديقة عامة، إلا وتجد فيها إما أطفال ملامحهم من غبار، يبيعون المحارم أو العلكة وغيرها، ومنهم من امتهن تنظيف السيارات على الشارات، فما إن تقف السيارة على الشارة، حتى يكون هذا الطفل صاحب الدلو الأكبر منه، يخرج منها قطعة قماش، ويعصرها بيديه الغضتين، ويمسح زجاج السيارة الأمامي، قبل أن يتوجه لمسح زجاج باب السائق، وهنا قد يأخذ إكرامية وربما لا، لكنه لن يتذمر، ولا يستغربن أحدكم إن كان عائدا في ساعة متأخرة، أن حدث وتعثر بعدة أطفال نائمين، مختبئين من البرد ببطانية مثقوبة. والناس على أصناف في التعامل معهم، فليس الجميع متعاطفون مع هذا المشهد اليومي، منهم من يراهم ولا يلقي حتى نظرة عليهم، وهذا من النوع الذي يمكن تلخيصه بالقول:”اللهم أسألك نفسي”، ومنهم من يراهم، ويتعاطف مع الحالة فيشتري من أحدهم علكة، وغالبا ما يدعها ولا يأخذها، وهذا من النوع الذي يحب أن يرشي ضميره بكونه أنقد لطفل منهم عدة ليرات،متعاميا عن كون الحالة التي تعاطف معها، هي مشكلته أيضا، كما هي مشكلة جميع من في هذا البلد، إنهم أطفال ولا يجب بأي حال من الأحوال أن يُرمى بهم إلى الضياع والبؤس وربما فيما بعد إلى عالم الجريمة، والحالة التي هم عليها من تشرد، هي عار للجميع، أيضا هناك من يراها حالة (نصب) متجددة في السلم والحرب، فأغلب هؤلاء الأطفال هم في الحقيقة، يعملون لصالح أشخاص معينين مقابل “خرجية يومية”، وهذه النظرة بالذات هي مخزية، فحتى لو كانت صحيحة كل الصحة، فهم لمّا يزالوا أطفالا يشتغلون رغما عنهم كل اليوم بين السيارات والشوارع عوض أن يكونوا في مدارسهم، وينامون مساء على مقاعد الحدائق والأرصفة، عوض البيت الآمن ودفء العائلة، وباعتبارهم ليس لديهم أي حيلة لما هم فيه، ليسوا هم من قرر أن يفعلوا ما يفعلوه، فالأطفال يميلون للعب والمرح والتعلم، لا للتدخين ومسح السيارات وبيع العلكة!!.
الأعداد صارت في تزايد متصاعد، والوعي الذي يتشكل لديهم خصوصا أن أغلبهم عمرهم من عمر الحرب أو أكبر منها بثلاث أو أربع سنوات، وفي الوقت الذي حاولت فيه التحدث إليهم، كانوا قد لاذوا بالفرار، وكأنهم مجرمون صغار، لا أطفالا تُعتق الحياة في أجسادهم طعم الخل والشيح.
“رامي” الفتى بسنواته الثلاثة عشرة، والذي يعرف القراء والكتابة، هو المسؤول وأخوته الثلاث، (حلا وعمران والصغيرة سارة ابنة الثماني أعوام)، عن إعالة الأسرة، فالأب مفقود منذ أكثر من 4 سنوات، لينتقلوا عندما بدأت معركة حلب إلى العاصمة، حيث كانوا ضيوفا على أحد الأقرباء، لكن صاحب البيت، رجل فقير أيضا ولا يستطيع إطعام أطفاله، فما باله بأسرة ثانية: “عندما طال مكوثنا عندهم أكثر من أربعة شهور، في غرفة لا نتحرك منها حتى يذهب لعمله، وأمي تساعد بل تقوم بأعمال البيت، وكأنها خادمة تماما قال رامي بعد أن أشعل سيجارة،: “كله يهون في سبيل المأوى”.
تعرف رامي خلال تلك الفترة على مجموعة من الصبية الغرباء المتواجدين في الحي نفسه، واختلط بينهم، ليقرر بعدها أنه هو من سيعيل أمه وأخوته ويستأجر لهم بيتا بعد أن كان شاهد في السابق أحد الأفلام التي يحدث فيها هذا: “ولو غرفة صغيرة، لأنها بالتأكيد أرحم من تلك السياط التي تنزل على جلود عيوننا، بينما أمي تقوم بعصر المساحات في دلو أزرق، لتقوم بمسح البيت”، وهكذا جاءت لرامي الفكرة بعد أن شاهدها على أرض الواقع، وصار يخرج يوميا كل صباح أخذا الدلو معه، وفي يده عدة قطع قماش، ولا يعود حتى بداية الليل: “لم يكن ما اجنيه، بقادر على جعلنا نستأجر بيتا، وتركنا بيت الأقارب لنحيا في حديقة عامة، ككثير مثلنا، لذا صرت آخذ أخوتي معي، حلا وسارة تبيعان المحارم والعلكة وأنا على حالي في تلميع السيارات التي تقف لثوان، بينما أمي تسأل سيدات البيوت إن كن بحاجة للمساعدة في تنظيف بيوتهن.
بعد عدة أشهر من النوم في الحدائق، والتحاف الجرائد، استطاع رامي أن يطلب لأمه أن تبحث عن بيت صغير ليستأجروه، لكن أجار البيوت مرتفعة جدا، ومع بعض المساعدة من أشخاص يذكرهم رامي بالخير، استطاعت العائلة التي شردتها الحرب، أن تنام تحت سقف من جديد، وأن تُغلق بابا عليها.
“نعود يوميا في حوالي الساعة السابعة مساء، وعلينا أن نركب واستطي نقل وأن نمشي ربع ساعة حتى نصل للبيت، وعندما ندخل ونشم رائحة الطعام، والبيت والذي هو غرفة ومنتفعاتها على بؤسه نظيف، وأمي تتفقدنا وتضم أخواتي الصغار، أفرح”.
وأنت يا رامي، ألا تضمك: “أنا أكبر أخوتي، وهم يستحقون ذلك أكثر مني”.
هذه قصة عائلة سورية، مثلها مثل الكثير من العائلات التي تشردت وضاع أبناؤها، حظ هذه العائلة كان جيدا بالنسبة لغيرها، بأن لديها فتى فكر في المشكلة وعمل على حلها، وهذا الحل الذي عنوانه التشرد، قام بإيواء عائلة بعمل أبنائها الصغار ليل نهار وصيف شتاء، بين السيارات والأرصفة.
بالتأكيد الجهات المعنية بالموضوع، ترتدي نظارات سوداء سميكة، وهذا السبب في كونها لا ترى هؤلاء الأطفال، الذين يتم ابتزازهم يوميا، ومنهم من يتم بيعه بالمعنى الحرفي للكلمة، وإلا لكانت تصرفت حيال هذه الكارثة الإنسانية بالتأكيد!.
في دمشق أنّا توجه بصرك، يمكنك أن تشاهد هذه الظاهرة، كما يمكنك أن تشاهد أيضا العديد من الإعلانات لفعالية (ثقافية) هنا و(اجتماعية) هناك، وملايين يُبذخ بها على أفلام لا أحد يراها، واحتفاليات منوعة ليست أكثر من حنفية للمال السائب، التي كان بإمكانها أن تقوم ببناء ملاجئ إنسانية لهذه الحالات الكثيرة المنتشرة في البلاد، وفي اللقاءات التلفزيونية للعديد من جماعة الجمعيات الخيرية، لا تسمع إلا عن العمل لأجل أبناء الشهداء وأبناء العائلات السورية المشردة، ولن نخفي سرا إذا قلنا أن العديد من عائلات أولئك الرجال الذي دفعوا أرواحهم كرمى الوطن وأبنائه جميعا، يباتون ليال كاملة بلا طعام أحيانا.
تمّام علي بركات