“الوزير” ورياح التاريخ العاتية
لم يكن ما قاله وزير الداخلية التركي عن تبعية دمشق وحلب لتركيا العثمانية زلة لسان عابرة بقدر ما كان مقولة مقصودة محمّلة بمدلولات وآمال سياسية آنية ومستقبلية لا يمكن غض النظر عنها، سواء لمكانة القائل وصفته الوظيفية الرسمية، أو لتوقيت المقولة الزمني ورسائلها الدلالية ومكامن توظيفها القريبة والبعيدة.
فمن حيث “القائل” وصفته الرسمية، وزير داخلية، ما يؤكّد أن دمشق وحلب – وكل المدن العربية الأخرى، وهو ما تفضحه تصريحات من أعوام عدّة سابقة لرأس نظامه عن حقه في التدخل في العراق، وعن “إخوانه” في القاهرة.. وغيرها – شأن داخلي بحت في الوعي الكامن لحزب العدالة والتنمية، وتالياً في الوعي الحكومي التركي. ومن حيث “المقولة” فهي، وإن كانت تعرض، ببراءة ظاهرية كاذبة، واقعة تاريخية محدّدة ومقيّدة بزمنها وظروفها، إلا أنها، في عرضها هذا، تتجاهل أمراً لتحاول ترسيخاً آخر كحقيقة لا تقبل النقاش، فهي تتجاهل أن المدينتين كانتا، حينها، تحت الاحتلال العثماني، ونكرّر الاحتلال، ولم تكونا جزءاً طبيعياً من بلد محدّد، وبالتالي تحاول، أي المقولة، بتجاهلها هذا ترسيخ “التبعية” كحقيقة تاريخية راسخة ومتمادية في الزمن، قطعها “الاحتلال السوري”، وحان وقت تصويبها، وذلك دليل آخر على حقيقة الأطماع التوسعية الاحتلالية للسلطان وحزبه العثماني الهوى والإخواني الهوية، يضاف إلى الدلائل العديدة المتراكمة، والتي بدأت بالتدخل السافر في القضية السورية “نصائح” سياسية ملغومة، ثم دعماً مطلقاً للإرهاب العابر والمقيم، وصولاً إلى التراخي الفاضح في تطبيق “اتفاق سوتشي” الأخير، وهنا تحديداً يمكن فهم توقيت هذه “المقولة”.
فهذه المقولة التي جاءت لتضيف لبنة جديدة إلى بناء سردية “طبيعية” للاحتلال التركي للأراضي السورية، بعد “لبنة” حماية الحدود من الإرهاب، ثم “لبنة” المنطقة الآمنة، أطلقت في هذا التوقيت، لتقول، ولو ترميزاً: إن التراخي في تطبيق “سوتشي” – وهو “اتفاق” اشترت أنقرة بواسطته الوقت، وباعت الوهم – أمر طبيعي لأنه يحصل في شأن داخلي تركي لا تنطبق عليه اتفاقات دولية خارجية، واستطراداً، يُفترض أن تُشرعَن “داخلية” هذا “الشأن” قريباً في مؤتمر للمعارضة المسيّرة تركياً مخصص، كما يقول أطرافه، لبحث مستقبل منطقة إدلب، فيما المطلوب منه إخراج صيغة جديدة تمهّد لإدارة “مدنية” في إدلب تابعة بالمطلق للداخلية التركية، تُشرعِن بدورها إغفال خطوات أخرى أناطها “سوتشي” بأنقرة، ولم تُنفَّذ بعد، ويأتي على رأسها “سحب السلاح الثقيل”، وإخراج المجموعات المتطرّفة من “المنطقة المنزوعة السلاح”، والأهم من كل ذلك، تتيح لأنقرة تمديد تجربتها الاستيطانية التوسعية التي بدأتها في المناطق الشمالية الغربية، حيث تعيد تشكيل المنطقة ديموغرافياً واقتصادياً وتعليمياً ودينياً.
فأسكنتها المجموعات المحسوبة عليها بدل المعارضين لها، ومنحت أعداداً غفيرة منهم جنسيتها، وربطت الدوائر المدنية وأحوال المواطنين واقتصادهم وتعليمهم بدوائرها و”ليرتها” وتعليمها، والأهم وضعت يدها على المجال الديني العام، تعليماً وتوجيهاً دعوياً، بواسطة مديرية الشؤون الدينية التركية، فالتعليم الديني، كما كتب باحث عربي، “وسيلةٌ تستخدمها أنقرة لإعداد أئمة المستقبل وقولبتهم بغية الاضطلاع بدور اجتماعي مهم في المجتمع السوري في مرحلة لاحقة”.
تلك، إذاً، وظيفة “المقولة” وأهمية توقيتها، بيد أن الوزير التركي يتجاهل، بمقولته “التاريخية” هذه، أنه يفتح باب التاريخ على مصراعيه، وهو تاريخ مخاتل بطبعه، خاصة وأن منطقتنا تمتلك، كما يقول الخبراء، فائضاً منه أكثر من أي منطقة أخرى، وبالتالي فإن فتح باب فيه يعني فتح أبواب عديدة لتهب منها رياح عاتية ستصيب الجميع بلسعاتها، وبعضها رياح حقيقية، لا متخيّلة كرياح الوزير، وهي تقول: لنا، نحن العرب، ديار بكر – بكر بن وائل لم يكن، بالتأكيد، عثمانياً – ولنا.. ولنا.. ولواء اسكندرون السليب، وهي أراضٍ سيعيدها جيل سوري قادم بلا ريب.
أحمد حسن