كلمة مرور نحو ” البر السوري”
لم يبق إلا المبادرات الخلّاقة فعلاً، لتكون مكمّلاً إسعافياً يفتح أفقاً جديداً باتجاه الخروج من دائرة تشظيات الحرب، ولعلّها أصعب وأثقل وطأة من الحرب ذاتها، فهذه طبيعة مناخات الأزمات وما بعدها.
ولا نظن أن ثمة مفاجآت في مثل هذا الطرح لدى كل من استطاع التقاط مؤشرات أزمة ما بعد حربنا مع الإرهاب، وتجاوز في إدراكه مجرّد الوقع المادّي المباشر لها، أي العبور من تجليات الضائقة إلى خلفيّاتها وأفقها الذي يبدو أنه سيطول نسبياً، فنتائج “الكارثة” لن تكون خيراً ولا نماءً عندما تعمل ماكينة إحصاء الخسائر، لتبقى عبرة الاستدراك وكفاءته متركزة في حذاقة التعاطي مع حيثيّة الزمن وشرطه الذي لا يقبل كثير مساومة.
المبادرات تبدو العبارة المفتاحية لسلسلة طويلة من الأدوار والمهام، التي لا تقتصر على مسؤول، ولا تستثني مواطناً. وهنا دعونا نعترف بأننا سنقف وجاهياً أمام إشكالية، هي أكثر ما يثير القلق بشأن الاستعداد والجدارة في تحمّل المسؤوليات، تتمثّل في تباين ” الحالة الذهنيّة” بين ثقافتي الحياة والموت، وبينهما مسافة هائلة بامتدادها، توازي تماماً حجم التباين بين المفهومين، بما أن الأول اندفاع والثاني كفّ وانكفاء حتى العدم، ولا نظن أننا نجتهد باطلاً، فنحن نتطرق إلى حقائق دامغة في مؤسساتنا ومجتمعنا، ليست خفيّة على من يرغب بالتحرّي عن ملامحها، وإن تحرّينا بأدوات قياس علميّة سنستنتج أن المسكونين بثقافة الحياة – أي هواة المبادرة الخلّاقة – ليسوا كثراً بيننا، لا على المستوى التنفيذي ولا في أطيافنا الشعبيّة، وهي الخاصيّة البغيضة التي تستحق الرصد والمعالجة لخطورتها.
وإن كان انكفاء المسؤول يؤدي إلى تكلفة هائلة في سياق الضياعات المترتبة على القطاع الذي يقوده بسبب ضعف أو انعدام المبادرة القياديّة، فإن انكفاء الفرد يبقيه وأسرته في دوّامة سريعة من العوز والارتباك وانعدام التوازن، والحقيقة “القاهرة” أن الوقائع تكشف أن لدينا من هؤلاء ما يتكفّل بإثارة كماً كبيراً من التوجّسات والقلق، ويمكن معرفتهم من ذهنياتهم الذرائعيّة المبرِّرة للانكفاء، والتي ربما هي امتداد للتلقّي غير السليم لمفاهيم كبرى وأساسية في التراث والذاكرة الجمعيّة.
لعلّنا متفقون، أو سنكون كذلك، فيما لو أُثير نقاش مجتمعي عبر وسائل الإعلام والتواصل، على أن المبادرات هي الممر الإجباري والآمن باتجاه الخلاص وترميم ما خرّبته الحرب، ولائحة المهام تطول هنا، إذ لا تقتصر على البعد المعيشي والاقتصادي، بل تتعدى ذلك إلى بنى أخرى مجتمعية أساسية، وفيما لو جرى مثل هذا النقاش المعلن سنكتشف حالات الجنوح نحو التبرير وسوق الذرائع وتقاذف الاتهامات، وسنتأكد أننا في خضم مشكلة ستواجهنا في رحلتنا نحو إعادة إعمار بلدنا وترتيب مفردات حياتنا على المستوى الفردي والأسري والمؤسساتي أيضاً.
وإن اتفقنا على إعلاء ثقافة المبادرة، فهذا يرتّب جُملة إجراءات لازمة على المستوى العام، أولها أهمها على الإطلاق صياغة استمارات تقييم أداء لشاغلي مفاصل المسؤولية التنفيذية، من مرتبة وزير وحتى رئيس دائرة، تتضمّن خلال فترة قياس زمنية، سنة واحدة مثلاً، توثيقاً للمبادرات التي تمّت والنتائج التي حققتها، وعلى أساسها يجري اتخاذ القرار المناسب بالإبقاء أو الإعفاء.
هي طريقة جداً مناسبة لاستنهاض المبادرات وفرز الذين لا تسعفهم ذهنياتهم في هذا الاتجاه، وفيما لو جرّبناها لن تكون اختراعاً سورياً، بل ستكون تجربة منقولة من دول جرّبت ونجحت وحققت نتائج باهرة.
وسنختم بمقولة لـ”توماس أديسون” ربما تختصر مزيداً من الاسترسال وهي” لو أننا جميعاً نقوم بالأشياء التي يمكننا القيام بها، فإننا سندهش أنفسنا دون شك”.. وديكارت جزم بأنه “لا يكفي أن يكون لنا عقل جيد، فالمهم هو أن نستخدمه بشكل حسن”.
ناظم عيد