أهدد دمشق وأغفو في حضنها!!
د. نهلة عيسى
خائفة أنا هذه الأيام, بل مرعوبة أنني أودع أبي, أودع الرجل الوطن, ولذلك أهيم على وجهي حين ترتدي المدينة ظلامها, في الشوارع الأنيقة والأزقة العتيقة, وبي رغبة مجنونة لقرع جميع أبواب البيوت أسائل أصحابها عمن رحل من أحبابي وأصحابي, لعل أحدهم يخبرني حقيقة ما جرى, أين ذهبوا, وفي أي أرض رسوا؟ علني أجد إليهم درباً لنتبادل العناوين الجديدة: المقبرة الفلانية, الجهة القبلية, رابع قبر على اليمين, ليصير قلبي قبراً يطل على كل القبور, يتجنب النوم, ويسابق الصباح ليلقي التحية كل يوم على كل من فيها, ويقطع الطريق على من يغوي أبي بالرحيل إليها!.
أهيم على وجهي في دمشق وأبي على ظهري عريشة ياسمين, وفي ذاكرتي النقية كل عمري مع أبي فيها, ما رواه لي وما عشته, وكان بودي القول ما أشبه اليوم بالأمس, إلا أن البون شاسع, والفارق كبير, لأن أمس أبي والوطن كان على الأقل وهم يقين, ووهم ثبات, ووهم أن النصر تحبسه جامعة الدول العربية التي لا جمعت ولا اجتمعت, ووهم بحبوحة مادية رغم قلة الكماليات, لأن الدولة بمؤسساتها (رغم الحصار تلو الحصار) كانت حامية لقوت المواطن من القطط السمان, بالاعتماد على الذات, وبالاستيراد والبيع والرقابة, بينما الآن اقتصادنا جبايات وضرائب, وتهريب وسوق سوداء وتجار حرب, وسلع من كل لون وصوب, مع خواء في اليقين والثبات والنجاة والجيوب, وحسرة في القلوب على ما فات رغم هزالة ما فات, وطوابير للفرجة على سلع أسعارها حولت الواحد منا إلى دجاجة تطاول رقبتها مجرد نقيق, وأكلها “…”, والسوق واسعة والخيارات كثيرة, والهراء يتدفق من الشاشات التلفزيونية في الفواصل بين الانقطاعات الكهربائية, يتحدث عن الشعب العنيد, والنصر الأكيد, والغد الذي لا بد آت, لكن ترانا إلى الغد باقين؟!
أظن أن هذا هو الحصار الذي لا قبله ولا بعده حصار, وهي ذي هي الحرب الحقيقية, لأنها تمييع للمفاهيم وخلط للمقاييس وتشويش للقيم, وفخ منصوب للكاظمين الغيظ أمثالنا, والباقين طوعاً وحباً في مدن جهاتها الأربع جبهات مفتوحة على الموت, على الخواء, إذا خرجوا عن طاعة الصبر على الفاسدين والمنافقين وسارقي القوت, لاحقتهم تهم جحود الوطن, والنيل من صموده, وإضعاف الروح المعنوية, ووهن العزيمة!! وعشرات النعوت والصفات التي قد تصل إلى حد الاتهام بالخيانة الوطنية, مع ذهول ينتاب المرء يفوق ذهول أصحاب الكهف, عن علاقة الوطنية بالصمت على المتاجرين بأوجاعنا الوطنية, أم ترى العمى والبكم والصمم في بلادنا.. فضيلة وطنية؟!
هذي هي الحرب الحقيقية, لأنها الحرب التي تنال من دافعي ثمن كل الحروب على مدار السنوات التي تختم في الغد عامها الثامن لتحتفي بالتاسع من دمائنا, والتي باتت المشجب والعذر والمبرر والشماعة لكل ما يرتكب من جرائم وأخطاء, ولكل ما يجري في الخفاء والعلن من ممارسات كارثية وسرقات تفوق في خطورتها وكابوسيتها، على الوطن وحماته, خطورة الحرب العسكرية, ذلك لأن قوة أي بلد مرهونة بشرعنة ناسه وقبولهم واحتمالهم وتماهيهم مع أحواله وظروفه, في حروبه وسلامه. وأظن أن معظم السوريين رغم الحزن المدجج في القلوب والعيون, لم يقصروا لحظة في التوحد المفرط في استثنائيته مع آلام وآمال وأوجاع وطنهم, ولم يتقاعسوا لثانية عن تقديم الروح والابن والأخ والزوج والأم والأب والمال والبيت, دفاعاً عن أرضه وعرضه, ولكنهم وبعد ثمان من الصبر العلقم, الذي يعرفون بفطرتهم أنه سيطول, لا يستطيعون أن يتبنوا أعذاراً لمن يسعون لتحويلهم إلى وجبات معلبة قابلة للأكل فقط في ساحات الموت, ولا مكان لها على سفرة الحياة!!
أهيم على وجهي في دمشق أم المدن, وأحلفها بالله وموسى وعيسى ومحمد أن تدعو لأبي, وأهددها أنه إن رحل رحلت, وأعرف أن دمشق تخاف على بنيها, وأعرف أنها تحب أبي, وأعرف أنها رغم الحرب, البؤس, وكسرة النفس, تمشط شعرها كل صباح على ضفة نهر الأمل, وتجدله ضفائر صغيرة تخبئ فيها أسماء كل السوريين, وخريطة الوطن, ثم ترفع يديها إلى السماء مناشدة الرب في عالي سماه: هؤلاء عترتي, أهل بيتي, أمانة بين يديك.