الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

فلا نزل القطر (1)

 

د. نضال الصالح

قلت لك ألف مرة: “لا أحبّه”، وكانت تضيف: “ليكن أشعر أهل زمانه، بل أشعر الشعراء في التاريخ كلّه، أفلا يكفيه أنّه القائل: إذا متُ ظمآناً فلا نزل القطر؟ أيّ أنانية هذه؟ أهذا شاعر؟ الشاعر صاحب رسالة”، وكانت تقصد شاعري الأثير أبا فراس الحمداني، صاحب الروميات، الذي شغفتني سيرته، كما شغفني شعره، فقررت أن تكون رسالتي لنيل درجة الماجستير عنه، إنساناً وشاعراً.
بيني وبين ناهد الآن، هذه اللحظة، نحو ثماني سنوات وآلاف الكيلو مترات، ورسالتان لا غير، الأولى منها والثانية مني، ثمّ لا شيء بعد أن عشنا معاً خمس سنوات كما يليق بعاشقين، بل كاستثناء من العشّاق جميعاً، عاشقيْن لو شاء روائي أن يكتب حكايتهما، لقيل أين منها مدوّنات العشق والصبابة والغرام عند العرب والعجم، من إساف ونائلة، إلى عنترة وعبلة، إلى قيس وليلى، إلى جميل وبثينة، إلى كثيّر وعزّة، إلى روميو وجولييت، وأنطوني وكليوباترا، إلى شاه جهان وممتاز محل، ومم وزين… إلى ما بعد ما سبق وغيره، حتى تقوم الساعة.
بعد أقلّ من يومين من سيطرة المسلّحين على غير حيّ من حلب قررت ناهد النجاة بنفسها، ومن دون أيّ مقدّمات، بل من دون أن تسألني أيّ سؤال عمّا أنجزت في الرسالة كما اعتادت، وقبل أن تستريح على الكرسيّ تماماً قالت: “اتصلت، ليلة أمس، بأختي وزوجها في السويد”، ثمّ وقبل أن أستجمع السؤال الذي تعثّر بحنجرتي: “ستهربين يا ناهد، قررتِ النجاة بنفسك؟”، تابعتْ وكأنها حدست بما سأقول: “لا شيء لي هنا كما تعرف غير البيت الذي ورثته عن أبي، أخوتي جميعاً مبعثرون في جهات الأرض منذ سنوات، والوضع ينذر بزلزال يا عدنان، لم أعرف طعماً للنوم في الليلة التي مضت وأنا أتابع مئات الصفحات والمواقع التي تخصّ المجموعات الظلامية”. قلتُ: “وحلب يا ناهد؟ حلب التي تعشقين؟ وأنا يا ناهد، أنا الذي طالما رددت أنك مستعدة للموت من أجله؟ والأحلام التي بنيناها معاً يا ناهد؟ حلمك الذي لم يذبل يوماً في أن يُترجم مشروعك عن حلب القديمة إلى واقع؟”، وأمطرتها بأسئلة لا أعرف كيف ازدحمت في روحي وعلى شفتيّ، وهي صامتة صمت القبور، ولم أكد أكمل سؤالي: “أأنت ناهد حقاً؟ ناهد التي أعرف، ناهد التي أحبّ؟”، حتى رمحت بجسدها عن الكرسي، ووقفت كما لو أنّ أفعى لدغتها، وبغضب واضح قالت للرجل الذي كان على وشك أن يضع القهوة على الطاولة: “نعم، أنا ناهد، ويمكنك أن تنساني، الوداع”.
وحيداً، وخارج حدود الزمان والمكان، كنت أستعيد خمس سنوات مضت من علاقتي بناهد، منذ لقائنا الأول في المهرجان الأدبي المركزي للجامعة، بعد أن ألقيت قصيدتي التي صفّق الحضور لها طويلاً، وأثنت عليها لجنة تحكيم النصوص المشاركة في المهرجان. في نهاية المهرجان اقتربت ناهد مني، وقالت وثمّة ابتسامة تبزغ بين شفتيها وفي عينيها: “أنا اسمي ناهد أيضاً، كأنّ قصيدتك عنّي أنا”….. (يتبع).