نحـــــــــو أدبـيــــــــات جـديـــــــدة
لم تعد حالة السكون التي تعيشها المجتمعات العربية لاسيما في القطاعين الثقافي والسياسي تقدم مؤشرات إيجابية واعدة نحو المستقبل، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار مظاهر الانقسام والتفتت الاجتماعي التي يبدو أنها لم تبلغ ذروتها بعد، ما يتطلب العمل على صياغة خطاب وطني قومي تحرري جامع يستند في أدبياته وسرديته على أسس معرفية مدروسة بدقة تنهض بتأصيلها وتأسيسها وإطلاقها المؤسسات الثقافية والأحزاب والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية الوطنية والعروبية.
فقد أدرك النهضويون العرب الحال المشابهة من التحديات في القرن الماضي وقدّموا ما أسهم في الحصاد الطيب لحركة النهضة والتحرر الوطني والاستقلال العربية… لكننا الآن كوطنيين وعروبيين تقدميين لم نعد نقف أمام حصاد طيب، إننا – ولا سيما الجيل الطالع إلى الحياة بعد عام 2000 وهم الآن طلبة جامعات- في معمعان حصاد مرّ يتمثل في منعكسات قاسية في المشهد الوطني والعربي حيث ينتشر الرماد والركام والنار والهشيم مع أشلاء الضحايا والدم المسفوك، ومع تبعثر الوعي والهوية والانتماء، مع هجرة المواطنين ونزوحهم خارج الأوطان وبالمقابل قدِم عشرات الآلاف إلى الأوطان من المرتزقة المأجورين حَملة التطرف والتكفير والإرهاب.
فقد أدرك حَمَلةُ ما بعد الحداثة في الغرب حاجة مجتمعاتهم وشعوبهم ودولهم إلى أنساق جديدة في الثقافة والسياسة والمجتمع، خاصة بعد الظروف التي عاشها الغرب والعالم أجمع في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، فرأى مفكرو الغرب وساسته أن الحداثة التي أنتجها عصر التنوير أسفرت عن ملايين الضحايا وخراب ودمار وتهديم لعشرات المدن، وما نجم عن ذلك من فوضى وإحباط وانحطاط روحي ببعده الإنساني، فكان لا بد من الانتقال إلى ما “بعد الحداثة” وفعلاً تم انتقال الغرب إلى عصر ما بعد الحداثة، ورافق ذلك انتقالنا كعرب إلى ما قبل الحداثة، إلى ما يشبه عصور الانحطاط وإلى ما يتجاوزها من عنف ووحشية في بعض المظاهر.
لقد تحقق نجاح مفكري الغرب وساسته بنقل مجتمعاتهم ودولهم إلى ما بعد الحداثة بعد أن عمدوا إلى صياغة أدبيات جديدة في الفلسفة وعلم الاجتماع والنقد الأدبي والسياسة تنطلق من تفكيك الأنساق السابقة في هذه المجالات التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر ولم تفلح في وقف وحشية الحربين العالميتين…. وهنا بزغت الأدبيات “التفكيكية والتشريحية” Deconstructive التي دعت في ما دعت إليه إلى تأسيس فضاء جديد لعلاقة الإنسان بمجتمعه بعد زعزعة الخطاب السائد وتفكيك النماذج المعرفية السابقة المتعالية المُهيمنة.
ولعل أبرز تجلٍّ لأدبيات التفكيكية ما قرأناه في مؤلفات الفيلسوف الفرنسي الراحل جاك دريدا خاصة تلك التي ألّفها عام 1967 في خضم الأحداث التي أدت إلى ثورة الطلاب المشهورة بنتائجها في فرنسا عام 1968. وقد فهم عدد من الدارسين العرب التفكيكية على أنها البعثرة والعبث والهدم، وهي في الواقع أقرب إلى التجديد وإعادة بناء الوعي والمجتمع.
مع الواقع الذي نعيش صار لا بد من إعادة النظر في كيفية استفادة العرب من: الحداثة ومن بعد الحداثة – من ثورة المعرفة والاتصالات وسرعة نقل المعلومة – من الفضائيات والسوشال ميديا- وقبلها من أدبيات عصر نهضتهم ومن مشروعهم النضالي الوطني العروبي- ومن أدبيات الخطاب الحزبي القومي العربي ولا سيما البعثية والناصرية وحركة القوميين العرب؟!
من المؤسف أن بعض تجليات الاستفادة الراهنة تتمثل في:
1- إذا أخذنا الحداثة وما بعدها على المحور العمودي أي محور الزمن فالعرب على مستويات المجتمع والأوطان والأمة في واقع مرير في وحدتهم المجتمعية والوطنية والعربية.
2- أنتجت ثورة المعرفة والاتصالات لدينا انحطاطاً معرفياً لا شك تمثّل في منعكساته المجتمعية السلبية وفي مستويات التنمية المستدامة المتدنية اقتصادياً وسياسياً وفكرياً واقترنت بنزوع استهلاكي غير فاعل بل مؤذٍ.
3- لم يؤد تطور وسائل الإعلام الفضائي والسوشال ميديا إلى تطور الوعي، ولا إلى التماسك الاجتماعي، ولا إلى تعزيز الهوية الوطنية بل إلى عكس ذلك، وكان لسياسات البترودولار أثر واضح في تحويل هذه الوسائل بما اعتراها من تزييف وتضليل وتطييف إلى عوامل تخريب وإحباط وتفتيت وانقسام واتجاه معاكس فاعل ومتابَع تخريبياً.
4- تم الانتقال في بعض الأقطار من متابعة حركة التحرر والنضال من الاستعمار والصهيونية إلى الاستسلام والتطبيع والعمل على الإساءة إلى محور مقاومة العدو الصهيوني وخلق صراع بديل عن الصراع معه في سبيل نقل البندقية من كتف إلى كتف أخرى.
5- لم تتم الاستفادة من ملامح العيش المشترك، والعمل العربي المشترك، والوحدة الوطنية أو القطرية، أو العربية سابقاً إلى مزيد من التناقضات المحلية والوطنية والعربية.
6- رافق ذلك تراجع حضور الخطاب الوطني القومي التقدمي مع دعم التحالف الصهيوأطلسي الرجعي العربي لتيار التطرف والتكفير على حساب هذا الخطاب وعلى حساب إسهام رجال الدين في أدبيات ومنجزات حركة النهضة والتحرر الوطني العربية… إلخ
هذا جميعه يستدعي أن تقوم أحزابنا ومنظماتنا ونقاباتنا بترسيخ ملامح حضور جديدة للدور المنشود منها ينطلق من تفكيك الخطاب والأدبيات التي كانت سائدة في القرن الماضي وإعادة بنائها في ضوء وعي مطابق لتطلعات الأجيال الصاعدة إلى المستقبل دون أن يعني هذا أبداً الإساءة بأي شكل من الأشكال إلى المبادىء والثوابت الوطنية والقومية.
على سبيل المثال والإفادة فقد حظينا كحزب بمقاربة ساطعة من هذا القبيل قدّمها الرفيق الأمين العام للحزب السيد الرئيس بشار الأسد في كلمته في ختام المؤتمر القطري التاسع للحزب عام 2000 في فهم واقعي جديد للأهداف: وحدة – حرية – اشتراكية، لكن نتائج هذه المقاربة لم تُستحصد بعد مضي عقدين من السنين مع اعتبارها لاتزال قراءة متقدمة ذات طابع مستقبلي تحتاجها الأحزاب والمنظمات والنقابات لتوطيد حضورها في هذا الزمن الصعب.
د. عبد اللطيف عمران