الديمقراطية.. آخر همّ أمريكا
تقدّم فنزويلا اليوم مثالاً جديداً عما يمكن أن تتعرض له الدول المتمسكة باستقلالها وسيادتها وقرارها الحر، والرافضة للتبعية والخضوع، من تدخل أمريكي سافر لإسقاط أنظمتها الوطنية يصل إلى حد العدوان العسكري الغاشم أحياناً، ويتخذ من العقوبات الاقتصادية الجائرة وسيلة لتأديب شعوب تلك الدول في انتهاك فظ لحقوق الإنسان. والغريب أنه بذريعة المعاناة الإنسانية التي تسببها العقوبات القاسية والحصار الخانق، تثير أمريكا الموضوع الإنساني، وتسارع إلى محاولة فرض ما تسميه المساعدات الإنسانية التي ليست في حقيقتها سوى وسيلة ملغومة لتسليح عملائها ومدّهم بوسائل القتل…
وفنزويلا لن تكون الأخيرة التي تستهدفها أمريكا بهذا الشكل الإجرامي ما لم يتخلص العالم من الهيمنة الأمريكية المالية والعسكرية والسياسية، وما لم تترسخ دعائم نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يصحح وضع العلاقات الدولية المتردي، ويعيد لها التوازن، ويضمن احترام ميثاق الأمم المتحدة وتنفيذ قرارات الشرعية، كما يضمن احترام سيادة الدول، واستقلالية المنظمات الدولية، وعدم تسييس عملها.
وفي استخفاف بالعقول يعكس مدى الانحطاط السياسي والأخلاقي الذي وصلت إليه الولايات المتحدة، تستمر العدوانية الأمريكية القديمة – الجديدة في التذرع بحجج الانتصار للديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما هي تقوم عملياً بأفعال مناقضة تنتهك أبسط قواعد الديمقراطية، وتصادر إرادة الشعوب، وتحاصرها بالتجويع وتدمير مرافق حياتها الأساسية( مثال الكهرباء في فنزويلا مؤخراً) وصولاً إلى الغزو وتقتيل الملايين في غير دولة بشكل مباشر، كما حدث في العراق أو عن طريق الوكلاء المحليين والأجانب كما حدث في سورية…
إنها أكذوبة أمريكية كبرى لم يعد يصدّقها إلا عملاء واشنطن، ولا يترك الواقع مجالاً للشك في أن أكثر ما تعارضه الولايات المتحدة هو الديمقراطية الوطنية التي تأتي برؤساء يتمتعون بثقة شعوبهم، ويستمدون منها القوة على التصدي لمحاولات التدخل الأمريكي. وهذا ما يفسر وقوفها وراء الانقلابات العسكرية على الرؤساء الشرعيين في أمريكا اللاتينية وحماية الأنظمة الديكتاتورية، ويفسر أيضاً دعمها المزمن للأنظمة العربية الأوتوقراطية.
إن الديمقراطية المطلوبة أمريكياً هي تلك التي يجب أن تُصنع على مقاس المصالح الأمريكية، وتأتي بحكام عملاء وتابعين يسمحون لواشنطن بتنفيذ مخططاتها في بلدانهم، ومصادرة قرارها السياسي ونهب ثرواتها. الديمقراطية المطلوبة أمريكياً هي باختصار نقيض الوطنية، هي الارتهان الكلي دون قيد أو شرط للإرادة الأمريكية. أما الديمقراطية التي تكرّس استقلال الدول وإرادة الشعوب، فنظام لا يعجب أمريكا، بل ترى فيه خطراً على مصالحها ومصالح ربيبتها إسرائيل. ولنا في التعامل الأمريكي مع الدول العربية بشكل خاص أسطع مثال على ذلك. فقد دأبت الولايات المتحدة على استهداف الدول الوطنية بينها بحجة انعدام الديمقراطية فيها رغم وجود هذه الديمقراطية بنسب مختلفة وخصوصيات متنوعة فيها، كما دأبت، بالمقابل، على غض الطرف عن الدول الدائرة في فلكها رغم انعدام الديمقراطية فيها…
إن أمريكا هي دون مبالغة العدو اللدود للديمقراطية في الدول العربية. وقد رأينا النماذج الديمقراطية الأمريكية التي صممتها لتلك الدول: ديمقراطية القتل والدمار.. ديمقراطية الفوضى الهدامة.. ديمقراطية الهويات المتقاتلة.. وفي أحسن الأحوال ديمقراطية المحاصصة الطائفية والمذهبية والدساتير الملغومة التي تكرّس الشروخ والفتن داخل الأوطان بدلاً من تكريس الاستقرار السياسي والوحدة الوطنية…
تعرف أمريكا أن التوجهات الوطنية الديمقراطية العربية تصب بالضرورة في خدمة المشروع القومي النهضوي المقاوِم، والذي يمثّل الخطر الاستراتيجي الأكبر على المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة. وتعرف الدولة الوطنية العربية أن المطلوب أمريكياً هو تصفية نهجها الاستقلالي والعروبي المقاوِم بكل الوسائل بما فيها تفصيل الدساتير الملغومة التي تُغرق الدولة في مستنقع صراعاتها الداخلية، وتعيق كل إمكانيات النهوض الوطني فيها. ومن هنا يظهر أن الصراع الجوهري مع أمريكا هو اليوم على وطنية الدولة العربية، وتمسكها بثوابتها، وفي مقدمتها الاستقلال والسيادة والعروبة والمقاومة …
وأما الديمقراطية فآخر ما يشغل بال الأمريكي…
محمد كنايسي