تقنيّات التطرّف والكراهية
تصريحات المدعي العام الهولندي حول العمل الإرهابي في مدينة أوتريخت تستحق الاهتمام والتدقيق فيما يتعلق بفهم عالمي “جديد” لتزايد أعمال التطرّف في العالم، فهو يقول متأكداً: “إن مطلق النار لا يعرف أيّاً من ضحاياه”. وهذا صحيح، وكذلك مجرم نيوزلندا لا يعرف أيضاً أيّاً من ضحاياه. لكن السؤال الأهم هو: من الذي يعرف إذن ؟!
من المعروف أن التطرف بكل أنواعه ظاهرة تاريخية تولّد العنف والإرهاب على حدّ ما نعرفه في الصهيونية والوهابية والإخوان المسلمين… إلخ، وأن هذا التطرف لطالما لقي الدعم من المركزية الغربية ومن سياسات البترودولار، وقد قدّمت مراكز الأبحاث في الغرب وقبلها دوائر الاستشراق المرتبطة بالنزعة الاستعمارية وبأجهزة المخابرات الغربية للمتطرفين كل رعاية ودعم بالتفكير ثم بالمال والسلاح.
في القرن الماضي كان التطرف مدعوماً بالاستراتيجيات. في هذا القرن اقترن دعم التطرف بالتقنيّات زيادة على الاستراتيجيات، وصار المتطرف بارعاً في استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة وتوظيف معطياتها وهو يتنقّل بين البلدان والقارّات والمطارات، مستخدماً عدة جوازات سفر، وأنواعاً من الأجهزة وصفحات الاتصال والتواصل، عابراً عشرات الحواجز الأمنية، حاصلاً بسهولة ويسر على تأشيرات الدخول والخروج، يحمل معه المال والسلاح، ورؤيته ونظريته الإرهابية معلّماً أو منتسباً أو مُلقَّناً أبجديات عمله وعلمه “عن بُعد”….
حسناً: من يصدّق أن هذا أمر عفوي منذ أحداث 11 أيلول 2001 وما يتصل بذلك من تجمّعات وتنقلات قطعان القاعدة وداعش والنصرة… ؟!!
فقد بدأ المتطرفون يحسنون الإفادة من التقنيات المعاصرة ليس بوسائلها المادية الحديثة الملموسة، بل أيضاً بالأفكار التي يتم من خلالها نشر الكراهية بين الشعوب بأطيافها المتنوعة قومياً وعرقياً ودينياً وطائفياً ومذهبياً وجغرافياً..
فانتشرت روح الكراهية البغيضة القاتلة، وغاب في هذا القرن ما كنا نعرفه في القرن الماضي من نشاط جماعات “Anti War”، ومنظمات الصداقة والسلم والتضامن بين الشعوب الأفروآسيوية الأمريكية اللاتينية، وكذلك روح حركة عدم الانحياز، وضعُفَ دور المجتمع الدولي والقانون الدولي ومنظمات الأمم المتحدة في هذا المجال، وكان لأفول حقبة التوازن الدولي دور سلبي فيما وصل العالم إليه مع نشاط القطبية الأحادية، وانتشار آثار طروحات المحافظين الجدد في “نهاية التاريخ” و”صراع الحضارات”، وتفشّي الأحزاب والجماعات المتطرفة في أوروبا، وتحوّل الرأسمالية إلى امبريالية متوحشّة تستثمر في التطرف والكراهية، في الإرهاب بالتحديد، وأيّ استثمار هذا الذي نحصد نتائجه المريرة في هذه المنطقة من العالم ؟!
اليوم ينتشر في العالم جرّاء ذلك القتل بالجملة، القتل بالدم البارد الذي يغيب فيه ومعه الحس الإنساني، فتعمّ العالم النتائج الكارثية للتطرف والكراهية، ولا نكاد نعرف شعباً أو مجتمعاً أو دولة لم تعانِ من هذا. فمع الأحداث الإرهابية الأخيرة تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي حديثاً مصوّراً لمدير جامعة أمريكية يتفق فيه تماماً مع رسالة مجرم نيوزلندا حيث يدعو، ومن منبر الجامعة، الحشود المجتمعة وسط تصفيقهم وهتافاتهم إلى “قتل المسلمين وتقديم دورات مجانية وأسلحة قبل أن يأتي المسلمون إليهم”، وبالمقابل هناك ردود فعل، بل دفع عصابات “إسلاموية” لتعزيز ذلك من خلال القيام بأعمال مماثلة تطال أول ما تطال المسلمين أنفسهم قبل غيرهم (نظرية العدو القريب الوهابية).
فالعالم اليوم يعاني من الاستخدام السلبي للتقنيات المعاصرة، ومن الاستراتيجيات الصهيوأمريكية – الوهابية المتطرفة، كما يعاني من آثار التعليم عن بُعد في هذا المجال، ومن التعليم الافتراضي، ومن الانكفاء على أجهزة الاتصال والتواصل الحديثة، ومن بدء الطلبة الانزواء عن المعلّم والأهل والاكتفاء بالشاشة وتنامي الشعور بالعدميّة.
فعلى الأحزاب والمنظمات والنقابات، ولا سيما في مجتمعات غنيّة بالتنوع والتعدد كمجتمعنا، أن تأخذ هذا جميعه بالحسبان لتعزيز التماسك الاجتماعي، وإقصاء مشاعر الكراهية والعنف، ولدعم قواعد العيش المشترك والوحدة الوطنية والعروبية والإسلامية في ظل هكذا استراتيجيات، ومعطيات سلبية للتقنيات، لأن التطرف والإرهاب كما قال القائد الأسد في 5/10/2013: “يمكن أن تضعه ورقة في جيبك، عندما تضعه في أول فرصة سيلدغك.. وهو خطر دائم في أي زمان ومكان”.
د. عبد اللطيف عمران