في عيدهن.. أمهات سوريات وقفن صامدات في وجه المصاعب وقدمن التضحيات
هي أبجدية الأم، حرفان يختصران آلاف الكلمات المعبّرة عن الأحاسيس والمشاعر والتضحية والإرادة، وغيرها الكثير من المفردات والمعاني، وفي كل لحظة لقاء، حينما تحتضنه مكلّلة بلهفة المشتاق، تضمه إلى صدرها غير آبهة بكل ما عانته خلال تسعة أشهر خلت، حملته في أحشائها روحاً ترتوي من عروقها، وتتغذى من فؤادها، وتُكمل مشوار الأمومة، تربّيه “كل شبر بندر”، هو طفلها، فلذة كبدها، وهي أمه، هي الدنيا.
الأم الأسمى
تنظر أم عدنان إلى الصور المعلّقة أمام ناظريها، تستقي الكلمات من عيون أبنائها الشهداء الثلاثة: فاروق، وهشام، وهاشم الداهوك، وكلها فخر بأولادها الذين غدوا طيفاً، “عيد الأم هو أجمل الأعياد”، تبدأ حديثها، مكفكفة عبرات عزّة ولوعة فراق، هي أم لثلاثة شهداء تجد في استشهادهم أجمل هدية في عيد الأم.
أم عدنان تتجدد ذكرياتها مع أولادها الثلاثة كل عيد، وتفتقد من كانوا يملؤون عليها حياتها، فالابن أغلى من الروح، وتدعو أمهات سورية إلى مساندة شبابهن، وشحذ همم أبنائهن حتى يعود الأمن والاستقرار والعزة لربوع الوطن الغالي، تقول: “واجب كل أم سورية أن تقدم العزاء الأكبر للوطن الأم سورية، حيث شاءت الأحداث الموسومة بالدماء أن تثكل”.
في عيدي أزوره
“كان أشرف مثله مثل الأولاد، ولكن كان هذا اليوم بالنسبة له يوماً مقدساً”، هو الشهيد أشرف العمار الذي انضم إلى قافلة الشهداء، شهداء الدفاع عن الأرض والعرض، “هؤلاء الشباب الذين التزموا بالدفاع عن أرضنا، وأعراضنا، وديننا، هم من رحم أمهات عظيمات، كنت أتمنى الانضمام إليهن دائماً”، تقول أم الشهيد أشرف.
هو أجمل الأعياد، مشاعر تحلّت بها قبل ارتفاع ابنها شهيداً، “لكن هذه الأيام اختلفت قليلاً عن سابقاتها، فأشرف أشعرني بالعزة أكثر، خصوصاً في هذا اليوم”، تتابع متزوّدة بالصبر من نظراتها المسلّطة على صورته معتزاً “برشاشه”، هي حققت “رجاء خاصاً” حلمت به ووصلت إليه.
حلّ عيد الأم هذا العام، وولدها أشرف منزله بعيد عنها، تمسح دموعها بيدها التي هزت مهده صغيراً، وتهز رأسها متمتمة بكلمات مشتاقة: “هو حاسس فيي”، تقول: “آخر عيد أم احتفل به أشرف كان مميزاً بالنسبة له، احتفل به من قلبه”، تتابع بحسرة.
“لديكم كنز بين أيديكم، لا تضيّعوا دماء الشهداء”، تخاطب أم أشرف كل الأمهات، راجية منهن تعليم أولادهن “الحفاظ على هذه الدماء، والحفاظ على كرامتنا التي منحنا إياها هؤلاء الشهداء”.
ولم تنس أم أشرف أن تبارك لأمهات الشهداء “هذا العيد وهذه الدماء”، وتفخر بابنها، وبكل الشهداء قائلة: “نحن الأمهات الأقرب إلى الله، وقد منحت لقب أم الشهيد”.
عزيمة وإصرار
لم تنل ظروف الحياة بقسوتها من عزيمة وإصرار أمهات السويداء كغيرهن من نساء سورية اللواتي كن دوماً مثالاً في البذل والتضحية والعطاء في الدفاع عن الوطن وبنائه، وكن سنداً قوياً لأسرهن، والأمثلة كثيرة: “سوسن حرب”، و”بنية الصفدي”، و”وصال أبو الحسن” من السويداء أمهات لم يستسلمن للظروف الصعبة، بل كانت دافعاً لهن، فاستنهضت همتهن للعطاء ليكن جنباً إلى جنب مع أزواجهن لتأمين مصدر رزق يستطعن من خلاله تأمين عيش كريم لأسرهن.
مسيرة حياة “حرب” التي قاربت الـ 61 عاماً كانت مليئة بالعثرات، حيث كانت تمتلك مشغل خياطة كسب شهرة واسعة في جرمانا، وحقق لها دخلاً مناسباً، لكن تداعيات الحرب الإرهابية على سورية أدت إلى تراجع عمل المشغل كثيراً حتى انقلب الربح إلى خسارة، وانتقلت للسويداء برفقة زوجها الذي يعاني وضعاً صحياً سيئاً حال دون ممارسته أي نوع من العمل، وبهذا آثرت العمل على بسطة لمدة 7 أشهر، ثم بدأت في صنع الحلويات أمام أحد المطاعم إلى أن تمكنت من إحداث كشك صغير لهذا الغرض بمساعدة بعض الناس، مؤكدة أنها تتابع عملها طالما أنها تتمتع بصحة جيدة لتبقى داعماً لأسرتها.
أما السيدة “أبو الحسن” فصممت على تعليم أبنائها الخمسة، وبدأت مشروعها على ماكينة تريكو ابتاعتها تقسيطاً في مدينة حلب التي انتقلت إليها مع زوجها، وباشرت بالعمل عليها بهدف كسب قوتها وقوت أسرتها، وحققت شهرة واسعة، فكانت تنتج في اليوم نحو 15 قطعة، لكن ظروف الحياة الصعبة أجبرتها على العودة للسويداء بعد وفاة زوجها برفقة الماكينة التي لازمتها نحو 60 عاماً لتتابع عملها عليها في قرية عرمان.
أما السيدة “الصفدي” التي بلغت عامها الـ 60، فقد وجدت نفسها وحيدة في مواجهة أعباء الحياة بعد وفاة زوجها المبكرة تاركاً لها طفلين أحدهما في عامه السابع، والآخر في شهره السادس، ما دفعها لسحب قرض من المصرف الزراعي، وتأسيس مشروع صغير لتربية الأبقار في بلدة القريا لتتمكن بعد ذلك من استثمار مخلفاتها في إنتاج الغاز الحيوي بمساعدة بعض المتطوعين، منهم جمعية الوفاء الخيرية.
طموح أم
تطلق تهاني الزيلع العنان لابتسامتها الوردية عند سؤالها عن إكمالها لمشوارها الدراسي، وهي ابنة الخمسين عاماً، وتعبر أنفاق الأسئلة المستفزة بسلام، مختصرة كل الأجوبة، فبالنسبة لها الطموح والإرادة هما الدافع والمشجع لها، والزيلع يعرفها أبناء مجتمعها عبر مشروعها للنباتات الطبية قبل ثلاثة عشر عاماً عبر قرض للبطالة ليتوسع حالياً لمحل لبيع المنتجات الطبية الطبيعية، إضافة إلى الفواكه المجففة في مدينة السويداء.
الزيلع بيّنت أنه بعد اقتراضها المبلغ افتتحت مع زوجها محلاً صغيراً في قرية “مفعلة” توسع تباعاً لتصل به اليوم إلى محل أكبر في مدينة السويداء، حيث يتم فيه بيع الأعشاب الطبية، ومواد التنظيف المستخلصة من الطبيعة، إضافة إلى الفواكه المجففة من محصولي التفاح والعنب.
المشروع فاز قبل أعوام كما تذكر صاحبته بلقب “المشروع الرائد” ضمن الملتقى الاقتصادي الأول بالسويداء، فضلاً عن تقديم منتجاته في معارض كثيرة، منها ثلاث دورات لمعرض دمشق الدولي.
ولا تخفي الزيلع سعادتها بما حققته، وخاصة مع تسويق منتجات مشروعها ضمن الأسواق والمعارض، مؤكدة أهمية توجه النساء الريفيات إلى الأعمال التي تعتمد على منتجات وخيرات الأرض والطبيعة.
الزيلع التي نجحت بمشروعها بفضل إرادتها وعزيمتها لم تمنعها سنوات العمر الخمسون من الحصول على شهادة الثانوية العامة للفرع الأدبي للعام الحالي برفقة ولدها صقر، حيث الطموح موجود لدخول الجامعة برفقته، ومتابعة تحصيلها العلمي، ما يشكّل إضافة تدعم بها عملها.
الزيلع من النساء المتميزات سواء بالعمل، أو في تربية أولادها، ونجاحها يؤكد دور الأم وطموحها الذي لا يتوقف عند حدود لتكون القدوة لأبنائها في بناء غد أفضل.
هن الأفضل
هن أجمل الأمهات، منهن من قدمت فلذة كبدها شهيداً مغواراً، فكانت شهادته الهدية، ومنهن من تكمل دراستها مواكبة أولادها، وشهادتها الجامعية هديتها، وأخريات وقفن صامدات في وجه صعوبة الحياة وقساوتها لتأمين حياة لائقة لأبنائهن.
هن نماذج أمهات مقاومات، بالصبر والحرف، وعند الله هن من “الجنّة تحت أقدامهن”، فكن كنزاً دنيوياً وجدن في زوايا الأرض، ويحصدن نتاجهن بأولاد صالحين ومجتمع.
رفعت الديك