السكن بين الأزمة المزمنة والحلول العلاجية الممكنة
أزمة السكن حالة قائمة منذ عقود، والمعالجات المتتابعة أفضت إلى حلّ جزئي بين زمان ومكان، يوم كان القرض العقاري السكني متاحاً لشريحة كبيرة، إذ كان قسطه يشكّل نسبة محمولة من الراتب ومبلغه يغطي قسماً كبيراً من كلفة المسكن، ويوم تمكنت الجمعيات التعاونية السكنية في بدايات إحداثها من تأمين عشرات آلاف الشقق السكنية في جميع المحافظات على أراضٍ مجانية أو بأسعار رمزية، وأغلبها تمّ عبر أقساط سنوية ميسورة، ويوم تأمين آلاف المساكن عبر السكن الادخاري والسكن العسكري والسكن العمالي، وما تمّ إنجازه من بدايات السكن الشبابي، ويوم كان بمقدور الكثير من المقاولين العمل في تشييد الأبنية السكنية وعرض شققها للبيع، بأسعار مكّنت غالبية الطبقة الوسطى من امتلاك مساكنها المتميزة والعادية، ويوم كانت مواد البناء رخيصة، ما مكّن الكثيرين من بناء مساكنهم في عقاراتهم، ولو امتد ذلك لعدة سنوات. إلا أن الحرب العدوانية التي يشهدها قطرنا منذ ثماني سنوات، أسفرت عن واقع حال جديد مؤلم، يتفاقم تتابعياً منذ بداية الحرب حتى تاريخه، فالقرض العقاري لم يعد متاحاً كما كانت عليه الحال من قبل، وحال أتيح لن يكون سهل الحصول، وحال تمّ الحصول، فأغلب الدخول لا تفي لتسديد القسط الشهري الذي يستهلك نسبة كبيرة من الراتب /الدخل الشهري/، وسوف لن يكفي القرض إلا لتغطية نسبة قليلة من تكاليف الشقة السكنية، لا بل حتى لا يكفي مرحلة الإكساء لمن يملك شقة على الهيكل!.
أيضاً التعاون السكني في وضع مؤلم، فأغلب الجمعيات التعاونية السكنية تعاني من تردي استكمال تنفيذ مشاريعها المنجزة جزئياً، أكان بسبب حالات فساد، أو ضعف التمويل أو قصور الجهات المتعهدة للمشاريع، كما تعاني من صعوبات الحصول على أراضٍ جديدة لمشاريع جديدة، عدا عن مئات الجمعيات الأخرى التي لم تقلع بأي مشروع سكني، ولم تملك أرضاً لذلك، رغم مضي عشرات السنين على إحداثها، وحال توفرت الأرض، فسيكون سعر المتر المربع آلاف أمثال سعره السابق، لأن قانون الاستملاك الجديد يمنح المالك حق الحصول على قيمة عقاره وفق السعر الرائج، وحال كانت العقارات من أملاك الدولة، فأيضاً من حق هذه الجهة أن تطلب قيمة أملاكها وفق السعر الرائج، ما يجعل الجمعيات أمام مكتتبين قلائل، عندما تطلب من منتسبيها مبالغ كبيرة لتسديد قيمة الأرض، عدا عن المبالغ الكبيرة للتخصّص الأولي والدفعات اللاحقة.
كما أن الجهات المعنية بالسكن الادخاري والعمالي والعسكري والشبابي، تعاني من تنفيذ وإكمال ما لديها من مشاريع سابقة، لأكثر من سبب، وخاصة ما يعود لضعف تمويل المخصّصين المطلوب منهم تسديد أضعاف القيمة المكتتب عليها من قبل، والظروف الحالية توحي بقلّة عدد المكتتبين الجدد، وأيضاً فللسكن التجاري معاناته نتيجة ارتفاع تكاليفه، ومعاناة الحصول على قرض عقاري، ما أضعف من أعداد المقبلين على الشراء من متعهدي القطاع الخاص، حتى أن بعضهم توقف عن البناء، لأن معظم سيولته النقدية أصبحت مجمّدة في مقاسم لم يستطع بيعها.
تبقى الطامة الكبرى عند الذين من المفترض أن يبنوا مساكنهم بأنفسهم في عقاراتهم، ولكن مطلوبهم ضعيف التحقيق، نتيجة معاناتهم الكبيرة من ارتفاع أسعار مواد البناء وارتفاع أجور عماله، فتكاليف منجور شقة سكنية اليوم، يكاد يقارب تكاليف مجمل الشقة قبل الحرب العدوانية، ما يوجب أن يكون طموحهم بشقة سكنية متناسبة المساحة ونوعية الإكساء بما يتناسب وإمكاناتهم بدءاً من غرفة ومنافعها، فالشقة السكنية المتوسطة أو الكبيرة لم تعد ممكنة التحقيق إلا لذوي الدخل المتناسب معها.
هذه الوقائع تجعل الشباب السوري المقبل على تشكيل أسر زوجية في حالة قلق كبير غير محمود العواقب، وعلى المواطن والمسؤول التعاون معاً، والتحضير للحدّ من عواقب هذا القلق. وأرى أن المخرج الرئيسي ممكن التحقيق، وذلك من بوابة تدخل الدولة في السكن، بدءاً من تحفيز وتمكين السكن التعاوني والادخاري والعسكري والعمالي والشبيبي من إنجاز المشاريع المباشر بها، وتعهد هذه الجهات الالتزام بالكلفة التي تعلنها عن أية شقة سكنية عند فتح باب تخصّص مكتتبين جدد في أية مشاريع جديدة، مع الالتزام بالتوقيت الزمني الذي تعلنه للإنجاز، وتحديد عواقب مسؤوليتها عن ذلك، بالتوازي مع تحديد مسؤولية المكتتب عن تأخره في التسديد المترتب عليه.
وكذلك عبر تولي الشركات العامة الإنشائية الاستثمار في الميدان السكني، بالتشاركية مع وحدات الإدارة المحلية، من خلال السعي لإقامة أحياء وقرى ومدن سكنية جديدة في ضواحي المناطق السكنية الحالية، مؤلفة من أبنية طابقية بما في ذلك الأبراج حسب طبيعة كل منطقة، على أن تتراوح مساحة الشقق السكنية من /30– 150/م2، وإعلان الاكتتاب على المساكن وفق شروط مادية وزمنية ومكانية ملزمة للمكتتبين وللشركة، مع وضع ضوابط تحكم المخلّ بهذه الشروط، على أن تخصّص بعض الأبراج للإيجار لمن ليس بمقدورهم الاكتتاب على مسكن، أو لمن هم مقيمون إقامة مؤقتة، فالسكن حالة واجبة العلاج السريع، قبل المزيد من الاستفحال المريع.
وأيضاً السماح للقطاع الخاص السكني المحلي وللمستثمرين الأجانب بالعمل في القطاع السكني، ولكن بقيود وشروط تضمن تحقّق مصلحة الوطن والمواطن بالتوازي مع تحقيق مصلحة المستثمرين، والرقابة الصارمة على الأرباح، على أن تحدّد المناطق السكنية ضمن أراضي أملاك الدولة غير الصالحة للزراعة.
عبد اللطيف عباس شعبان/ عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية