“أمريكا أولاً” .. سياسة ترامب تهدّد التحالف القديم مع أوروبا
د.معن منيف سليمان
تهدّد سياسة الرئيس الأمريكي ” دونالد ترامب”، التي تقوم على مبدأ ” أمريكا أولاً”، بتأزيم وإضعاف التحالف القديم بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، الذي تعرّض لشروخ وضغوط سابقة في أعقاب الانسحاب الأمريكي من اتفاقية باريس للبيئة، وفرضه رسوم حماية على استيراد الصلب والألمونيوم من الاتحاد الأوروبي، وفتور “ترامب” تجاه حلف شمال الأطلسي “الناتو”، الأمر الذي حفّز دول أوروبا على الأخذ بشعار” أوروبا الموحّدة” في مواجهة شعار ترامب ” أمريكا أولاً”. ولم يتخذ الأوروبيون في تاريخهم موقفاً موحّداً يختلف عن موقف الولايات المتحدة في عدّة قضايا، كما يفعلون اليوم. خاصة في بعض الملفات المتعلّقة بالشرق الأوسط، كالملف النووي الإيراني أو مسألة القدس أو العقوبات على روسيا، وقد حاول الاتحاد الأوروبي تجنّب مواجهة تجارية بينه وبين الولايات المتحدة. لأن دول الاتحاد لا ترغب في دخول حرب تجارية مع الولايات المتحدة، ذلك أن الولايات المتحدة ما تزال الشريك الاقتصادي والحليف العسكري الأقرب والأهم بالنسبة لدول أوروبا.
اهتزّ حبل الثقة في العلاقات بين الولايات المتّحدة ودول أوروبا منذ أن انسحبت واشنطن من اتفاقية المناخ الموقعة في باريس عام 2015م، من جانب 195 دولة، وتصعيدها الإجراءات التجارية ضدّ أوروبا، حيث فرض الرئيس “ترامب” رسوماً جمركية بنسبة 25 بالمئة على واردات الصلب و10 بالمئة على واردات الألمونيوم في آذار 2018م. ، متجاهلاً التحذيرات من حرب تجارية عالمية واحتجاجات حلفائه في أوروبا، وسوّغ “ترامب” إجراءاته أنها جاءت ردّاً على “أزمة متنامية” وأن صناعة الصلب في بلاده “عانت من ممارسات تجارية أجنبية عدوانية”. وسوّغ فرض رسوم جمارك عقابية على استيراد المعادن، بأن “هذه البضائع مهمّة لإيجاد الوظائف داخل صناعات التسليح لضمان الأمن القومي”.
كل الدلائل تشير إلى مواجهة تجارية بين واشنطن وأوروبا بعدما توعّد رئيس المفوضية الأوروبية بالرّد و”بقوة” على تصريحات “ترامب” حول فرض رسوم جمركية على الصلب والألمونيوم. كما ارتفعت أصوات بعض المسؤولين الأوروبيين وشنّوا هجوماً على سياسة “ترامب” ضدّ أوروبا، حيث وصفها بعضهم بـ “العبثية”، و”المزعجة”، وربما تجسّد عملياً “واقعاً جيوسياسياً جديداً “. وأن شعار “أمريكا أولاً” كان بمثابة جرس إنذار، ويجب أن يكون الرّد عليه بـ”أوروبا متحدة”. واقترح بعضهم ضرورة مناقشة كافة الأساليب والآليات اللازمة لرفع مستوى التنسيق والإجراءات المشتركة لتعزيز وحدة الاتحاد الأوروبي ومنها إنشاء “مجلس أمن” خاص بالاتحاد الأوروبي.
حاول الاتحاد الأوروبي حتى آخر لحظة تجنّب مواجهة تجارية بينه وبين الولايات المتحدة، إذ أن الأوروبيين لا يرغبون في دخول حرب تجارية مع الولايات المتحدة، وهم يعلمون جيداً أن الخطر الحقيقي للمستقبل هو الرّد على السياسة الحمائية الأميركية التي يصعب توقع تأثيراتها على المبادلات التجارية وأسعار العملات، وأن مثل هذه الحرب التجارية ستسفر عن خاسرين لدى كلّ الأطراف.
ليست المرة الأولى التي تشكل فيها أوروبا الموحدة هدفاً لهجوم الرئيس الأمريكي، وهذا يشير إلى وجود استراتيجية أمريكية في هذا المنحى، فقد عرض الرئيس “ترامب”، في أثناء استقباله الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في نيسان 2018م، انسحاب فرنسا من الاتحاد الأوروبي مقابل تعاون مربح.
ومن هذا المنطلق، بات على الاتحاد الأوروبي أن يتخذ موقفاً حاسماً من الهندسة الجديدة التي يجري إعدادها لقيام النظام العالمي الجديد، فإما أن يقبل أن يكون قوة تابعة للولايات المتحدة في اندفاعها نحو تبوّء قيادة عالمية أحادية أو متعددة الأطراف بمشاركة أطراف دولية كبرى تنازعها القوة مثل الصين وروسيا، وإما أن يكون طرفاً دولياً شريكاً في قيادة عالمية جماعية متعددة الأطراف تكون أوروبا قادرة من خلالها على حماية مصالحها. هناك حتماً صعوبات أمام القبول الأوروبي بأي الخيارين فكلاهما له تكاليفه، لكن التضرر الأوروبي من السياسة الأمريكية التي لا تعبأ بمصالح الشركاء لا على المستوى الاقتصادي ولا على المستوى الأمني قد يدفع أوروبا إلى قبول التحدّي والخوض في خيار أوروبا الموحدة، والعمل على فرض أوروبا شريكاً في قيادة عالمية، وربما يؤدي هذا الخيار إلى توجه أوروبا إلى مراجعة سياساتها الأمنية وعلاقاتها مع روسيا على وجه الخصوص.
أوروبا، ضرورية للولايات المتحدة كسوق وليس كمنافس، رغم التقارب التاريخي والأيديولوجي بينهما. وهذا يعني، حين ستختار أوروبا بين الاندماج والتفكك، لن يكون خيار الاندماج في مصلحة واشنطن الحالية.
في الحقيقة، كانت الولايات المتحدة وستظل هي المموّل الرئيس لحلف شمال الأطلسي، وهو بدونها لن يستمر أبداً، فمن دون الولايات المتحدة، تحالف شمال الأطلسي يعدّ على حدّ قول أحد المحلّلين: “كلام فارغ، خيال” لذلك، فمن المستبعد أن يأخذ الشركاء الأوروبيون بجدية مطالب الرئيس “ترامب” بتحمل عبء المسؤولية عن الحلف. إذ أن واشنطن لن تمضي إلى “إفقار” حلف “الناتو” وإضعافه، ولن تتصرف ضدّ مصالحها الجيوسياسية.
كما يشار أيضاً إلى أن خط الصدع آخذ في الظهور بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين مع قرار الولايات المتحدة الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني. ولكن ما فعله الرئيس “ترامب” فيما يتعلّق بالملف النووي الإيراني كان بمثابة تخطٍّ حدود واعتداء على مشروع أوروبي، ما جعل الأوروبيون يتخذون موقفاً موحّداً. الاتفاق النووي مع إيران كان إنجازاً ديبلوماسياً من أعلى المستويات عمل على إنجازه الأوروبيون معاً لسنوات طويلة. صحيح أنه يحتوي على بعض الأخطاء، ولكنه حقق بداية جديدة في العلاقات مع إيران.
ما يقوم به الأوروبيون هو خلق إطار ديبلوماسي يمكن من خلاله التفاوض مع إيران على أمور أخرى أيضاً غير الاتفاق النووي، وفي مفاوضات تكون الولايات المتحدة طرفاً فيها. تحقيق ذلك سيكون مهمّة دبلوماسية غاية في الصعوبة، تفوق التوصل للاتفاق النووي صعوبة، لأن الأمريكيين هدموا الكثير من الثقة بما فعلوه. ولهذا يرى الأوروبيون إن إلغاء الاتفاقية خطير من الناحية السياسية؛ لدرجة أنهم لا يمكنهم أن يتركوا ذلك يحدث دون أن يعارضوه.
نقطة خلاف أخرى تتجلّى في نقل السفارة الأمريكية إلى القدس حيث لم يحظ قرار الرئيس “ترامب” بتأييد الأوروبيين. لأنهم يؤمنون بأن العيش المشترك لدولتين هما “إسرائيل” وفلسطين هو السبيل الوحيد لحل الأزمة. وهذه قناعة نمت وتطورت عبر عدة سنوات. إن ما فعله الرئيس “ترامب” من انحياز شديد “لإسرائيل” رجّح كفة الجانب الإسرائيلي لدرجة لم يعد الإسرائيليون يشعرون بحاجة لحل الدولتين أصلاً.
واليوم يأمل الاتحاد الأوروبي في أن يكون لدى الأمريكيين أيّة فكرة أو عرض ما لبدء المفاوضات، أو أن يقوموا على الرغم من دعمهم الكبير “لإٍسرائيل” لانتقاد السياسية الإسرائيلية والمطالبة بوقف الاستيطان، لعلّهم ينجحون في استعادة القليل من الثقة بأنهم مهتمّين بالتوصل إلى حلّ من خلال التفاوض. الأوروبيون مستعدّون دائماً لتقديم العون، ولكن النية الأمريكية ما تزال مبهمة.
الولايات المتحدة تخالف مجدداً قواعد التجارة الدولية وتوسّع عقوباتها ضدّ روسيا بشكل يضرّ المصالح الأوروبية في مشاريع الغاز المشتركة. ونظراً إلى التجربة الأوروبية مع روسيا في إمدادات الطاقة رغم الخلافات والتوترات السياسية يجري العمل حالياً على مدّ خط ثانٍ للأنابيب عبر بحر البلطيق لتعزيز الإمدادات الروسية بالغاز إلى أوروبا. غير أن الولايات المتحدة تعارض هذا المشروع وتسعى إلى تصدير المزيد من الغاز المسال إلى الأسواق الأوروبية عن طريق السفن عبر المحيط الأطلسي.
ومن هنا ليس أمام الولايات المتحدة في الوقت الحالي سوى وسائل الضغط السياسي والعقوبات المخالفة للقانون الدولي من أجل خلق شروط أفضل لشركاتها في الأسواق الأوروبية على حساب الغاز الروسي. وعلى ضوء ذلك تُتهم الولايات المتحدة بالعمل على تحقيق مصالحها الاقتصادية من خلال الضغط المتعمد على الشركات الأوروبية وتهديدها. وأن التهديد بفرض العقوبات يمثل نقلة جديدة سلبية في العلاقات الأمريكية ـ الأوروبية.
إن العقوبات الأمريكية على روسيا تقوّض شروط المنافسة المتكافئة التي تعدّ الركن الأساسي للنظم الليبرالية الاقتصادية بدون استثناء. وبناءً على ذلك يمكن وصف ما تقوم به الولايات المتحدة بأنّه نوع من الاستبداد الاقتصادي الذي يطال مصالح أقرب الحلفاء بشكل مخالف لقواعد التجارة العالمية. فهي لم تعد تنظر للمجتمع الدولي كمنتدى جماعي تحكمه علاقات منظّمة، بل “حلبة صراع” تعمل وفق قانون الأقوياء، وليست قوة القانون. ومن هنا تأتي أهمية تعزيز الوحدة الأوروبية كي تكون أوروبا بصوت واحد قادرة على حماية مصالحها الاقتصادية.
ولكن بالرغم من حدّة بعض التصريحات فإن الموضوع لم يخرج عن حدود السيطرة. صحيح أن الأمريكيين ارتكبوا أخطاءً كثيرة، وظهروا بمظهر من ليس لديه أدنى فكرة عن كيفية التعامل مع إيران أو كمن يفتقد لأية استراتيجية للتقريب بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن رغم كل ذلك، فإن الولايات المتحدة ما تزال الشريك الأقرب والأهم بالنسبة للاتحاد الأوروبي. إنه أمر يتعلّق بالارتباط الكبير في مجال الدفاع المشترك من خلال حلف شمال الأطلسي “الناتو” وبالعلاقات الاقتصادية القوية بين الطرفين. يجب أن لا ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية مع كندا والاتحاد الأوروبي تشكّل أقوى حلف عسكري وأقوى حلف اقتصادي في العالم. إضافة إلى ذلك يجمع الطرفين الكثير من القيم المشتركة فيما يخص الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويتشاطرون وجهة نظر واحدة فيما يتعلّق بقضايا الوطن العربي، فأطماع ومصالح الطرفين تتلاقى على الساحة العربية.
ولكن في بعض الحالات، مثلاً فيما يتعلّق بإنقاذ الملف النووي الإيراني لأهميته الكبيرة بالنسبة للأوروبيين، فمن الطبيعي أن يبحث الأوروبيون عن أطراف يتعاونون معها مثل الصين وروسيا. هم أيضاً بحاجة لتعاون الصين من أجل إنقاذ اتفاقية باريس لحماية البيئة، وأيضاً من أجل المحافظة على التجارة الحرّة، وملء الكثير من الثغرات التي خلفتها السياسة الأمريكية في الحقبة الأخيرة، ولكن هذا لا يعني بأية حال من الأحوال تصدّع العلاقات، إنها فقط تعبير عن سوء الأوضاع في الوقت الراهن.