قدسية المصادفة
سلوى عباس
إنها لمصادفة مباركة أن يجتمع العيدان معاً.. عيد الأم التي هي المعلمة الأولى وعيد المعلم الذي استلهم قيم رسالته من أمه، ففي المدرسة علّمونا أن الأم مدرسة وأمهاتنا هن أبجديتنا الأولى.. إنسانة تحمل في روحها عبق الحب تهديه لأبنائها ليتزنّروا بانطلاقة جديدة في الحياة التي لا تنتظر أحداً، نلجأ إليها في تعبنا نستمد منها القوة لتجاوز ما يرهقنا، وهي المتعبة بأثقال الحياة.. هي الإنسانة الوحيدة التي تشبه روحها وذاتها كثيراً.. أشرقت في حياتنا ولوّنتها بظلال من الصدق والأمان والحب، ورسمت لنا ملامح أكوان غادرتنا في زحمة لهاثنا وركضنا وراء السراب المختبئ خلف غيوم الأمل، تفصّل لوجوهنا المتغضنة بالتعب وشاحاً من مروج خضراء مزينة بألوان قوس قزحية.. بها يحتفل الربيع، وهي في حالة إزهار دائم، حتى لو عبرت غيمة ما سماءها فجأة فإنها سرعان ما تستعيد ألقها وزهوة الربيع. الأم في عيدها تفتح نافذة قلبها المفضية إلى الأمل وتطيّر في سمائها حمامة من رغبات وأمنيات.. تحمّلها وجدها وأحلامها الندية، بانتظار أن يعود ضوء النهار يشعّ في روحها، لتدرك أن هناك حياة، ولتعلن فيها أعيادها، وتطير حولها فراشات الفرح.
في عيد الأم اعتاد الأبناء الاحتفال بأمهاتهم، ولكن كيف يمر هذا العيد على أم الشهيد، يا للوقت المر الذي يطوّق روحها.. كل يسعى إلى أمه ووحدها تعيش عيدها حزينة.. مسكونة بالرماد.. ومشاهد الرحيل.. تستعيد صورة ابنها الذي غادرها.. وزرع فراقه في روحها وجعاً أبدياً.. مرة أخرى يأتي العيد والغياب يقضّ الروح، يأتي كما سحابة تعبر السماء على عجل فلا تمطر غيثها كاملاً، تترك ناسها على جذع يابس ينتظرون عودة المطر، فكيف ستستطيع الأمهات دفع الوجد عن أعناقهن، وكيف سيعبرن كل هذا البحر من الدقائق والثواني، وشواطئ من فقدن بعيدة والوقت لجاجة من ملح وعلقم، جبل من جليد على الصدر، ودهر يقف بينهم، دون أن يدركن إلى ماذا سيحيلهن هذا الزمان البارد الذي سيأتي، أي اتقاد سيضطرم فيهن، وأي اندلاع للحنين والاشتياق، ومن سيطفئ ذاك النهر ويهدئ قلوبهن عن خفقانها المضطرب.
أما المعلم.. هذا الرسول الذي حمل من قيم الأم كل النبل والسمو له الحق أن يفخر أنه تلميذ نجيب لمعلمة هي ملحمة العطاء وينبوع الحنان والحب الصادق.. هو كالياسمين رسالته عبقه الذي ينثره على أرواح طلاب يعدهم للمستقبل الواعد، وهو مثال يحتذى للطالب، فبقدر ما يحترم رسالته ويكون وفياً لها بقدر ما يحصد نتيجة تعبه ثماراً يانعة، ولو أن الحال اليوم اختلف عنه في الأمس الذي كان المدرّس يجسد حالة من القدسية والتبجيل بالنسبة للطلاب والأهل معاً، وهنا تحضرني حادثة عشتها وأنا في الصف الخامس الابتدائي عندما أخبرتنا مديرتنا أنها ستنتقل إلى مدرسة أخرى وطلبت منا أن نخبر ذوينا إذا كانوا يرغبون بنقلنا إلى تلك المدرسة، فما كان مني إلا أن أخبرتها برغبتي بالذهاب معها في رحلتها الجديدة لقناعتي أن أهلي سيوافقون على قراري، فهي مدرّسة قديرة ومشهود لها، وكذلك المدرسة التي كنا فيها وتحمل اسم المناضلة جميلة بوحيرد، والمدرسة الجديدة التي تحمل اسم شاعر المعرة أبو العلاء المعري، أيضاً هذه المدرسة كان لها سمعتها الجيدة، ولو أنها الآن فقدت الكثير من هويتها ورسالتها، لأن طبيعة فهم الرسالة الرسالة التربوية والتعليمية اختلفت وأصبحت تخضع لمعايير يفرضها الأهل والقائمون على العملية التعليمية، ومع ذلك يبقى هناك معلمون لازالوا متمسكين برسالتهم وقيمهم وضميرهم الحي، ولهم ولأمهاتهم نردد مع الشاعر”قم للمعلم وفّه التبجيلا/كاد المعلم أن يكون رسولا”.