الوجه القاتل للفقر
كم سنكون بلداً فقيراً إن صحّت القراءات الجديدة لمفردات الثروة، فتعدّد مواردنا وتنوّعها لم يعد يشفع لنا، في زمن الانقلاب على المفاهيم التقليديّة وحتى النظريات القديمة، التي وجدها المتمسّكون بها فجأةً في عداد البائد وعديم الصلاحية.
فقد حدث انزياح ما في أدبيّات الاقتصاد الحديث، ولا سيما بعد أزمة الرهن العقاري والإفلاسات، وانتشار القلق من أفول زمن الغذاء الرخيص، قفز برجل الأعمال إلى مقدّمة المعايير التي تُقاس بها ثروات البلدان، وها هي وحدات قياس القوّة الاقتصادية تنأى تدريجيّاً عن المقوّمات الماديّة، واضعةً رجل الأعمال في مقدّمة روائز التصنيف.
هي تطورات متسارعة وانعطافات حادّة لا نملك إلّا الاستسلام لها أو مسايرتها على الأقل، لأن فيها من الواقعيّة ما يؤهّلها لتنال حصّتها من التمعّن والتفكير، بما أن في هذا العالم بلداناً تتصدّر قائمة “الأكثر نمواً” رغم فقرها بالموارد، لنكتشف أن العبرة كانت في قدرتها على تنشئة ” منظومة أعمال متكاملة” هي من تكفّل باستقطاب الرساميل، متجاوزةً حلقات كثيرة، بما أن كل الموارد تتحوّل في المحصّلة إلى رأسمال مالي.
حقيقة مثيرة للهواجس بشأننا نحن، الذين ما زال مفهوم ” رجل الأعمال” ملتبساً لدينا.. فالتصنيف واللقب لا يتجاوز حدود الادعاء والإيحاء الشخصي، بدءاً من المظهر، وصولاً إلى المنطوق بعيداً عن اعتبارات المنطق وإملاءاته.. ولعلّنا لا نتجنّى أو نحاول جلد الذات، فكم من اسم نتداوله في يومياتنا وإعلامنا دون أن نعلم أية تفاصيل عن أعماله وثروته ومقوّمات حيازته للقب ” رجل أعمال”؟؟.
والمثير للهواجس أكثر أن نكتشف سر ” رجولة الأعمال” هنا في معظم حنايا بيئتنا السوريّة، فقوامها ورأسمالها الاستفادة، إما من دعم حكومي أو إعفاءات وتسهيلات، أو قرض “عملاق” من مصرف حكومي أيضاً، حوّلته مخيّلة الحاذقين إلى منحة غير قابلة للاسترداد.. لتغدو الموازنة العامة للدولة الكعكة التي ينتظرها المئات من ” المتعيّشين عليها”، إن كانوا متعهّدين أو وكلاء محليين لشركات أجنبيّة، أو صناعيين طامحين لمخصصات صناعيّة، أو تجّاراً يسعون لإجازات استيراد ” امتيازيّة”، والكلّ يتنكّر بزي رجل أعمال.. والكلّ أيضاً متهرّب من سداد أية التزامات إن كانت ضرائب أو رسوماً، وهنا تكمن الحقيقة الأشد إيلاماً وخطورة.. فأرقام الجباية السنويّة لصالح الخزينة العامة هزيلة، ومعظمها من تسديدات القطاع العام!!.
لعلّه من اللافت أن يكون لدينا في سورية بضعة رجال أعمال حقيقيين يؤدّون دوراً تنموياً فعلياً في السياق الوطني واستحقاقاته الصعبة في هذا الظرف الاستثنائي، والبقيّة الأكثر عديداً بكثير، لا يظهرون إلّا في قوائم الإحصاء العائدة لغرف الصناعة والتجارة، أو في قوائم التظلّم والمطالب التي يجري الدفع بها دوماً نحو الجهات الوصائيّة، وهذا يعني أننا فعلاً فقراء، وإن كنّا أغنياء بمواردنا، لأن استنهاض الموارد كحالة استثماريّة، هي مهمة رجال “البزنس” الذين ينادون بالاقتصاد الحر والليبرالية الاقتصاديّة، في وقت يصر أكثرهم على البقاء تحت مظلّة الحكومة، فمعظم أرباحهم عبارة عن علاوات وفروقات الدعم المباشر، بالوقود والكهرباء و مدخلات الإنتاج، أي إنهم أثرياء الدعم وليس الاستثمار.
بالفعل هي أزمة عميقة تعتري بنية الاقتصاد السوري في هذا الزمن الذي لم يعد يقبل بخصلة الطفيليّة منهاج عمل وتفكير، ويبدو الاستدراك الواضح والصريح حاجة ملحّة و” إسعافيّة”، تبدأ بإعادة تصنيف رجال الأعمال وفق الملاءة والحضور الاقتصادي، ثم توزيع المسؤوليات على هذا الأساس، فثمة قانون جاهز للتشاركيّة يتكفّل بوضع رجال الأعمال على طاولة اختبار وطني ولو بنفحة اقتصادية، وليمسي الباقون خارج التصنيف، فالمجال لم يعد يتسع لـ” رجال أقوال” وتشويش وإرباك وطفيليّة.
وقد اجتهد أحد الحكماء يوماً في تعريف المليونير الطفيلي، ورأى أنه رجل يساعد موته على حل أزمة الكثير ممن حوله.
ناظم عيد