كل ما أنا عليه!؟
د. نهلة عيسى
يسألني الأصحاب هذه الأيام: ما الذي يجعل وجهك دائماً يغالب الإرهاق, فأجيبهم: لا أنام, فيردون مستغربين: وماالذي يمنعك من النوم, خاصة وأن الكهرباء في بلادنا كانت أول شهداء الإرهاب؟ فأقول: الفقد صعب, ولدي خوف, فتتجهم وجوههم, وتنتابهم الحيرة: مما تخافين؟ فينتابني ضحك ثلثاه بكاء: ومما لا أخاف, إذا كانت الحقيقة تنتظر الفجر قرب شمعة, لتقدم اعتراضها على الاعتقاد الدائم, الواهم, بحسن نية النهار, فلايغرنكم البياض, فبطن الأفعى ناصع البياض, وكثير من الخمور تنحل إلى بياض, تتوهج نصاعة عند امتلائها, وبعد رشفة يعاودها الشحوب, فتستوطن قلب شاربها وحشة غريبة, كشباك بيت لم يعد يضيء, أتم عنكبوت فوقه نسيجه الصوفي, لكن ملامح الزجاج لا تعرف النسيان!؟
يا أصدقائي: أتعزى بكم, وأجد في محبتكم الوطن, ومبرراً للبقاء في الوطن, إن كان البقاء يحتاج لسبب, وهو قطعاً لا يحتاج, ولكن النهار في بلادي ليس شمساً, النهار وعاء فظ لنور الشمس, سراب ومرايا محدبة, وألف وجه ووجه لكل وجه, والبحث عن حقيقة في هذا الضباب, في هذا المدى, في بحر من البشر, سدى بعد سدى, النهار يد تتساند على جدار الليل, وخطوة إلى الظلام, لاشيء في النهار يخيفني أكثر من أنه يبدو متعرياً, وقد زاد بعد رحيل أبي عراه!!.
لا تتفرسوا في وجهي باحثين عن ملامح تثبت جنوني, يا أصدقائي: لست مجنونة, وإن كنت أود, أنا وأظنكم مثلي, ومثلنا كثر, أخسر قلبي منذ ثمانية أعوام, وأداري الخسارة بأبي ومن أحب, ولكن بعد رحيله دلدل القلب أذنيه كعبد أمام نخاس.
يا أصدقائي: الوجع مرض عضال يعشق العتمة, ونهارنا الفاجر علّم قلوبنا الطأطأة, وأريد أن أخرج بوجعي إلى العلن, لعل الشمس تطهّر الجرح!؟.
أنا لا أجيد التقية, ولا ادعاء التجلد, موجوعة أنا بكل الحروف, حرفاً يمتطي حرفاً, وفاعلاً يلي فعلاً, ومجروراً بات مرفوعاً, وتساؤلاً يبدو جواباً, موجوعة أنا ولا أهذي, ولا أبحث عن صب الزيت على الجرح, ولا جعل العمر يبدو هباءً, والصبر غباءً, وابتسامات الضحى صدأ على الشفاه؟ ولا تغطية النقوش والصور بالسواد, ورسم الغد خطوطاً متعرجة, يدير لنا كتفيه مستهزئاً, إذ ماذا يفعل المغبونون, المغلوبون مثلنا, حين أقول لهم: إن الغد يوليهم الظهرَ, حتماً لن يرضى عني أبي!؟
نحن مغبونون.. نعم, محزنون.. نعم, مغلوبون.. لا, لأن هناك فرق بين دق الجرس لينزع النهار نقابه المعتل, وبين دق الصدر, وما أقوله وأنا على قمة جبل الوجع, هو دق للجرس, وليس إعلان وفاة, إلا إذا كنا لا نريد أن نسمع سوى ما نريد, رغم أنه لم يعِ هذا البلد سوى أنه كان لا يسمع ما يجب, وما كان وسيكون, بل يسمع ما يريد!
يا أصدقائي: الحرب في بلادنا مستمرة, والموت يعانق الموت على الدروب, والدم تحت أظافر النهار الطويلة, لا يغرنكم الوضوح, فالوقاحة أيضاً وضوحاً, والفجور وضوحاً, والعهر وضوحاً, والخيانة وضوحاً, ومن باعوا هذا البلد الحزين, وسرقوا حبات قلوب الأمهات, تذرعوا بالوضوح, وبلادنا كل يوم توضع على المقصلة, هل هناك أكثر من ذلك وضوحاً!؟
لكن ماذا نحن فاعلون لكي تبقى عقولنا بعيدة عن مسرح الغفلة, متسربلة بالطمأنينة, لا تعرف الظلمة, ولا تخشى الأبواب المغلقة, تصاحب الدروب, وتتصفح الوجوه, كل الوجوه, وترى في كل وجه اسم علم, يشبه وجوه أمهاتنا, وملامح آبائنا, يشبه وجه الوطن, يشبه تلك المدن التي حملني إليها أبي وأنا صغيرة, ليعلمني ما معنى وطن, وكبرت وأنا أعرف حتى في الغربة من أين أتيت وأين سأنتهي, وإلى أين يجب أن أنتمي, وخلاصة الخلاصة: أنني وأنا في قمة الوجع أعرف أنني أكرّم أبي وجينات أبي, أي كل ما أنا عليه, وأنا أدافع عن الوطن.