التدخل الإنساني.. والنظام العالمي الجديد
هيفاء علي
من الحقائق الثابتة أن القانون العام الدولي يحظر بشكل صارم أي تهديد باستخدام القوة السياسية من قبل كيان سياسي (دولة) ذي سيادة، أو استخدام القوة المسلحة من قبل دولة تعمل دون إذن من مجلس الأمن، على أساس الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وبعبارة أخرى، لا يمكن استخدام القوة، بما في ذلك التدخل العسكري، إلا تحت رعاية ميثاق الأمم المتحدة، بعد إذن من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فما هو القانون الدولي العام وما هو الأمن الجماعي؟.
يُعرف القانون الدولي أيضاً باسم القانون الدولي العام لتمييزه عن القانون الدولي الخاص، الذي لا يتعامل مع العلاقات بين الدول. والقانون الدولي العام يعتبر نظاماً للقواعد يلزم الدول، وبالتالي يحدد العلاقات بين الدول أو الكيانات السياسية الأخرى، والرعايا، في العلاقات الدولية والسياسة العالمية. القانون هو مجموعة من القواعد العامة القابلة للتنفيذ. والقانون الدولي مستوحى من عدد من المصادر مثل المعاهدات والعادات والمبادئ والممارسات المقبولة عموماً على أساس قرارات الهيئات القضائية الدولية. ويعتبر القانون الدولي العام عموماً أفضل وسيلة لإرساء النظام من خلال احترام المبادئ الأخلاقية، وبالتالي فإن القانون العام الدولي يسمح بالتسوية السلمية للنزاعات الدولية. بشكل عام، القانون الدولي العام هو نظام قانوني يحكم العلاقات بين الدول ذات السيادة وحقوقها وواجباتها المتبادلة.
من لديه سلطة تقرير النزاعات المتعلقة بالقانون الدولي العام؟ محكمة العدل الدولية أو المحكمة العالمية. وتتكون محكمة لاهاي من 15 قاضياً يتم انتخابهم لمدة تسع سنوات، وقد تم إنشاؤها من قبل الأمم المتحدة على التوالي في محكمة العدل الدولية الدائمة. جميع أعضاء الأمم المتحدة هم طرف في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. وقد تمنح هذه المحكمة أيضاً فتاوى استشارية ليست ملزمة للأطراف، ولكنها تتمتع بسلطة كبيرة.
وتعد فكرة الأمن الجماعي جزءاً لا يتجزأ من القانون الدولي العام، استناداً إلى فكرة أن العدوان يمكن احتواءه بشكل أفضل من خلال إجراء موحد اتخذته عدد من الدول تحت ستار القانون الدولي. كانت هذه الفكرة أيضاً المبدأ التأسيسي لعصبة الأمم بين الحربين العالميتين، وبالتالي، تم دمجها في ميثاق الأمم المتحدة. تستند نظرية الأمن الجماعي إلى فرضية أن الحرب والصراع الدوليين مترسخان في انعدام الأمن وهيمنة سياسات القوة، الفكرة، بمعنى آخر، تشير إلى أن الدول لديها القدرة، إما على ردع العدوان في المقام الأول أو لمعاقبة المخالف إذا لم يتم احترام القانون والنظام الدوليين، أي تم انتهاكهما.
وفي السياق، فإن استخدام مفهومي “التدخل الإنساني” والأمن الجماعي أصبح مضللاً بوحشية من قبل الإدارة الأمريكية مع ظهور هذا النظام العالمي الجديد. بشكل عام، تم تفسير النظام العالمي بعد سقوط جدار برلين عام 1989 بطرق مختلفة، ولكن الحقيقة هي أنه بعد عام 1945، تم استبدال النظام العالمي الثنائي القطب بنظام عالمي أحادي القطب، تمت تسميته “النظام العالمي الجديد” من قبل الرئيس الأمريكي الـ 41 جورج بوش الأب على أساس القوة العظمى للولايات المتحدة. هذا الوضع الجديد للقوة الامبريالية السابقة في النظام العالمي الجديد كان موضع محاولة للتعريف خلال ما يسمى الحرب على الإرهاب التي أعلنها الرئيس الأمريكي 43 جورج بوش الابن بعد هجمات 11 أيلول 2001 لمحاربة القوات التي يُعتقد أنها تكمن وراء تهديد الإرهاب العالمي، ولكن في جوهرها ترمي إلى تقوية وترسيخ موقع الولايات المتحدة كشرطي على العالم. ولكن لحسن الحظ أدى ظهور قوى جديدة، خاصة روسيا والصين، والتأثير المتزايد للجهات الفاعلة غير الحكومية في السياسة العالمية، إلى شكل جديد من كيان متعدد الأقطاب.
من الواضح أن القانون العام الدولي الحديث يحظر أي شكل من أشكال التدخل العسكري إلا بموافقة مجلس الأمن الدولي، بغرض استخدام القوة لإرساء السلام والأمن الدوليين. علاوة على ذلك، فإن أي شكل من أشكال التدخل أو التهديد العسكري، بما في ذلك لأسباب إنسانية، بسبب الانتهاك المنهجي لحقوق الإنسان المحمية دولياً يعد أحد أكثر الأشكال فظاعةً لاستخدام القوة، وبالتالي يعتبرها القانون الدولي بمثابة حرب ويحظرها.
إن ميثاق الأمم المتحدة واضح تماماً بشأن التزام جميع الدول بعدم اللجوء إلى التهديد باستخدام القوة أو فرض نفسها ضد السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي. لذلك، لا يحق لأي دولة التدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في الشؤون الداخلية والخارجية لدولة أخرى أو مجموعة من الدول. ويجب توضيح أن هذا الحظر يشير بشكل خاص إلى التدخلات المسلحة، وأيضاً إلى أشكال التدخل الأخرى التي تشكل تدابير قسرية في المجال السياسي والاقتصادي، على سبيل المثال، فرض عقوبات اقتصادية.
يدين القانون الدولي أيضاً الأنشطة التخريبية التي تم إعدادها أو تنفيذها على أراضي دولة ضد حكومة دولة أخرى أو لغرض المشاركة في الحرب الأهلية في تلك الدولة، كما حدث على سبيل المثال في صربيا إبان حرب كوسوفو 1998- 1999 بما في ذلك تجنيد وتدريب وإرسال قوات جيش تحرير كوسوفو شبه العسكرية عبر الحدود لمحاربة قوات الأمن الشرعية لدولة مستقلة وذات سيادة.
ومع ذلك، يدعي صناع القرار في الهيمنة العالمية بعد الحرب الباردة أن القانون الدولي العام، على الأقل من وجهة نظر الأخلاق، يترك مجالاً لاستخدام القوة المحتمل ضد دولة ذات سيادة ، لأغراض حماية حقوق الإنسان. ووفقاً لتفسيرهم ، فإن “التدخلات الإنسانية” لها ما يبررها أخلاقياً وحتى قانونياً بموجب القانون الدولي، لأن الغرض من هذه التدخلات العسكرية ليس تقويض السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي للدول، بل حماية حقوق الإنسان المكفولة دولياً. رغم ذلك، لن يدرك دعاة الحرب الأمريكيون حقيقة أن أي خرق للسلام الدولي لأغراض “إنسانية” يتعارض تلقائياً مع القانون الدولي العام، ويتعارض مع أهداف الأمم المتحدة.
وأكدت هذه المواقف أيضاً الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1970، التي أعلنت أن على كل دولة واجب عدم استخدام التهديد و/ أو العنف كوسيلة لحل النزاعات. ويجب ألا ننسى أنه وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، يُحظر على الأمم المتحدة التدخل في الأمور التي تدخل في نطاق نشاط اختصاص الولاية المحلية لكل دولة. يمكن أن يكون الاستثناء من هذا الحظر فقط حالات نزاعات داخلية تهدد السلام العالمي، ولكن حتى في هذه الحالات، لا يسمح بتدخل عسكري إلا بموافقة مجلس الأمن الدولي.
هكذا “ازدهر” التدخل الإنساني تحت جناح النظام العالمي الجديد، فدمر بلدان برمتها وقتل مئات الألوف وشرد الملايين، مسبباً كوارث إنسانية يندى لها جبين البشرية، كل ذلك باسم حقوق الإنسان. وعليه، شهد العقدان الأخيران من القرن الحالي تدخلات عسكرية جمة تحت غطاء التدخل الإنساني.. بدءاً بتقسيم يوغسلافيا وتحويلها إلى دويلات وأقاليم، مروراً بأفغانستان والعراق، ليبيا وسورية، واليمن من خلال دعمها لمملكة آل سعود في عدوانها الشرس على هذا البلد، وصولاً إلى فنزويلا، حيث عملت الإدارة الأمريكية على دعم غوايدو للقيام بانقلاب ضد حكومة الرئيس الشرعي مادورو، وترسل مساعداتها الإنسانية لمساعدة الشعب الفنزويللي حسب زعمها، ولكن لعبتها مكشوفة ولم تعد خافية على أحد.. مساعداتها الإنسانية ليست سوى مساعدات عسكرية بمختلف أصناف الأسلحة كتمهيد لتدخل عسكري لتغيير نظام الحكم في البلاد، تماماً كما فعلت في سورية بدعمها للإرهاب بالسلاح والمال، لكنها منيت بهزيمة نكراء رغم كل ما أغدقت من أموال وسلاح على مرتزقتها وأدواتها في الداخل.