خسرنا وإن ربحنا
خسرنا وإن ربحنا.. عبارة تلخّص أخطر النتائج المحتملة لجهد فردي أو جمعي، وربما الأخطر هو توهّم المكاسب العائمة على متوالية خسائر.
في الاقتصاد تبدو إسقاطات هذه المفارقة سهلة الرصد، لأن حسابات الربح والخسارة تتخذ بُعداً مادياً – مالياً، بما أن العبرة تخرج عموماً على شكل أرقام، أي لا شِعر ولا نثر ولا أدعية ولا تعاويذ، حيث 1+1= 2 وليس 11.. فماذا عن اقتصادنا ؟؟.
هو تساؤل لا بدّ منه ليس من قبيل التشكيك، بل “التشييك” على حصاد جهود رسميّة كانت مضنية بالفعل، هدفت إلى إعادة بناء القدرات الإنتاجية، وترميم ما دمّرته الحرب أو حيّدته من المنظومة الاقتصادية، وكم هي مهمة صعبة في الواقع، وفق حسابات خصوصية الظرف بالنسبة لدولة خاضت غمار ثماني سنوات من الحرب الضروس، لتجد نفسها أمام استحقاق مواجهة معقّدة في حرب أخرى، لكنها هذه المرّة صامتة خرساء ناعمة، اسمها الحرب الاقتصادية.
رغم سوداويّة الظرف .. بدا المشهد الإنتاجي السوري بخير، على قاعدة توجيه “المكنة التنفيذية” نحو خدمة ميدان الإنتاج، فكانت الحصيلة غير تقليدية كمّاً وقيمةً، وهذا موثّق على الورق وماثل على الأرض، في مضماري الصناعة والزراعة، كقطاعين يستقلّان بالحصة الأكبر من الأرضيّة التنمويّة في بلدٍ كبلدنا.
إلّا أن الباحثين في التفاصيل رصدوا اختلالاً قد لا يبشّر بالخير في علاقة قطاع الأعمال بالدولة الحاضنة له، وبنك التسهيلات والدعم الحكومي بالغ السّخاء، في سياق قائمة الحقوق والواجبات التقليدية.
وإيرادات الخزينة العامّة من الضرائب والرسوم، هي المؤشّر الذي يلخّص خلاصة الوقائع الدفتريّة لمجمل الحراك الاقتصادي، وهو ما يبني عليه الكثيرون حالياً في التحرّي عن الأثر النهائي لإنعاش مطارح الإنتاج، وإن لم نفصح عن رقم محدّد عن قيمة العائدات السنوية على الخزينة من هذا البند، فلا نظن أنه بخافٍ على من يبحث عنه، وهو بالعموم متواضع لدرجة تماسه مع الخطوط الحمراء في الأعراف المحاسبيّة.
من الموازنة ندخل إلى لب ومحتوى المنتج المحلّي الذي كان موضوع الدعم ببعديه المادي والمعنوي، وسنجد أن القيمة الماديّة في سلسلة مراحل الإضافة والتصنيع السلعي تقوم على علاوات الدعم أكثر من القيم المضافة، من دعم توريد مدخلات الإنتاج، إلى دعم الكهرباء والمشتقّات النفطيّة، إلى سلسلة الإعفاءات والتسهيلات من الرسوم والضمائم.. فالحصيلة النهائيّة لكل هذه المنظومة الإجرائية والماديّة الداعمة، تظهر على شكل سلعة تعود قيمتها النقدية كاملةً على من أنتجها ثم باعها، إن في السوق المحليّة أم تصديراً إلى الأسواق الخارجيّة، حتى المشتريات الحكوميّة منها تكون كاملة القيمة، فماذا دفع المستفيدون مقابل ما حظوا به من تمكين لثرواتهم في سياق مساعي الدولة لتعزيز البنى الإنتاجية؟؟.
ربما علينا ألّا نرمي الكرة هنا في الملعب التنفيذي الذي يتعاطى بنفحة أبويّة مع قطاع الأعمال، خلال فترة “النقاهة” من المرض والمحنة، بل ثمة استحقاقات واجبة على رجل الأعمال الآن، صناعياً كان أم تاجراً– في هذه الفترة بالذات من مجريات الحرب على سورية – أولها وأبسطها إيفاء الخزينة العامة ما لها، والإقلاع عن عادة التهرّب الضريبي البغيضة وخصلة الطفيليّة، التي نجتهد جميعاً لنفيها أو تهذيب توصفيها، والتي تستحكم بذهنية معظم رجال “البزنس” المحلّي.
فبعد فترة قد لا تطول سنكون أمام تعديل جديد للقانون الضريبي في سورية، ويجب أن يكون مناسبة لإفراد صفحة جديدة في العلاقة بين وزارة المالية ومكلّفيها عموماً من مختلف الشرائح، وقد يكون علينا أن نحرص على تضمين التشريع الجديد عقوبات قاسية بحق المتهرّبين ضريبياً، وكذلك الفاسدين والمتلاعبين بمنظومة الاستعلام والجباية، فالتشريع الحالي القديم والبائد، الذي يزيد عمره عن السبعين عاماً، رخو ومائع إلى الحد الذي يفتقر فيه إلى أية عقوبات زاجرة، فيما تصنّف كل قوانين الدنيا التهرّب الضريبي في خانة الجرائم وليس الجنح، والمعلوم أن فضائح السّاسة والمشاهير وكبار رجال الأعمال في هذا العالم كلّها يمكن أن تتلاشى بالتقادم، إلّا فضيحة التهرّب الضريبي، فتودي بمستقبل صاحبها.
ناظم عيد