إشراقة نيسان
سلوى عباس
في لحظة من عمر الزمن عادت بي الذاكرة إلى أيام كنت في الصف الثاني الإعدادي عندما جاء شقيق صديقتي يطلب إلينا الانتساب إلى منظمة شبيبة الثورة، وعندما سألناه بماذا تفيدنا ونحن لا نزال طلاباً في مراحلنا الأولى أجابنا بأنها الخطوة الأولى بتأهيلنا للانتساب إلى صفوف حزب البعث الاشتراكي، فوافقنا على عرضه، وأخذ يمدنا بكتيبات صغيرة ومنشورات عن منظمة الشبيبة بعض الأفكار التي تتناسب مع وعينا وفهمنا عن الحزب، وبعد سنوات وكنا قد انتقلنا إلى المرحلة الثانوية جاءت إلينا مديرة المدرسة تحدثنا عن ضرورة انتسابنا للحزب، وأخذ المسؤولون عن تأهيلنا يقدمون لنا تجارب الرفاق الأوائل في الحزب ومن بينهم الشاعر الراحل سليمان العيسى الذي شاءت لي الظروف أن ألتقيه شخصياً وهو يتحدث عن تجربته في مسيرة الحزب والصعوبات التي عاناها هو ورفاقه من أجل رسالتهم، وعن شجرة السنديان التي تقف شامخة في إحدى قرى ريفنا الجميل، والتي كانت شاهدة على صرختهم الأولى بميلاد بعث جديد، وأمة عربية واحدة وانبلاج فجر جديد، فتحت هذه السنديانة غزل أولى أحلامهم الوردية مع مجموعة من أصدقائه، حيث كانت ملهمة لهم للكثير من الأفكار.. هؤلاء الشباب من أبطال العروبة وعلى رأسهم المناضل العربي زكي الأرسوزي، وكيف كانوا يتشاطرون الهموم، وعلى رغيف الخبز والزيتون يكتبون أولى أحلامهم الرائعة، ويبشرون بها هذه الأرض العطشى.. بـ “أمة عربية واحدة.. وطن عربي واحد”.
رحل سليمان العيسى وبقيت شجرة السنديان الشامخة شموخ الزمن شاهدة على أيام كانت تتقد حماسة وعنفواناً، ظلت شاهدة على أحلام رسمها شباب بعمر العنفوان وعطر الورد، وزينوها بقناديل الأمل لتزهر أمنيات كبيرة وعظيمة تليق بعظمة شجرة ستبقى تروي للأجيال القادمة قصة شباب عربي جمعهم حب الوطن، فجلسوا تحت ظلها يناجون أرواحهم بغد عربي يباهون به الأمم، فكانت تلك السنديانة أمينة على هذه الأحلام. وها هي الذكرى تطل اليوم لتعود بنا إلى تلك الليلة التي كانت نقطة التحول في حياة أبناء سورية التي أخذت تغزل من خيوط الشمس مجد تاريخها ومستقبل أبنائها الذين يتباهون بوجودهم في وطن يضمهم ويمثل انتماؤهم للحياة، فنرى كل مواطن من موقعه يعبر عن فرحه بهذا الانتماء، ولا تغيب من مخيلتي صورة ذلك السائق الذي كان يشكو لي حاله المعيشي وفجأة وعلى وقع فاصل إعلاني بصوت الإعلامية هيام حموي تقول: “قرب الموعد والشوق اكتمل.. صار المطر ع الشبابيك” حتى بادرني بالقول اسمعي هذا الصوت الذي يشفي الروح، وأمام ابتسامتي أخذ يحدثني عن حبه لسورية واعتزازه بالانتماء إلى تلك البقعة من الأرض التي كانت على مر العصور منارة لكل العرب، ويعبّر عن استيائه من الذين لا يقدرون قيمة وجودهم في هذا البلد المعطاء الذي يمثل الملاذ الأول لكل إنسان، ويجهلون أهمية كل خطوة ترتسم على أرضها في هذه اللحظات العصيبة التي تعيشها، نحن أبناءها ومعنيون بها مهما كانت ظروفنا، هذا السائق أنموذجاً للمواطن السوري، الذي يدرك معنى الحياة التي تجمعه مع الآخر النقيض له بأفكاره وسلوكه وحتى نظرته للحياة وأسلوب تعبيره عن انتمائه لها، لأن ثقافة المواطنة تعني الانتماء للحياة بكل رموزها وقيمها، هي ثقافة الإرادة الإنسانية التي تعلو على كل الثقافات الجزئية، فما يعيشه الإنسان من حالات تصبح جزءاً من وعيه لانتمائه الوطني، وهؤلاء الناس المتقدة قلوبهم بشعلة الإيمان والأمل على تجاوز محن الحياة هم من يملكون القدرة على صياغة الحاضر والمستقبل بإرادة وتصميم على مواجهة كل التحديات، وهذا مارسّخه البعث منذ اثنين وسبعين عاما في وجدان الشعب السوري الذي امتلك مقومات الحلم والإرادة وسر الحياة.