أخبارصحيفة البعث

من وحي البعث.. الوطني هو القومي

 

من المفيد الإشارة إلى معنى كلمة وطني وقومي في اللغات التي سادت في عصر النهضة الأوروبية، وعمّت فيما بعد أرجاء الوطن العربي نتيجة تأثره بهذه النهضة  ومنها كلمات national، والتي تعني اسماً كلمة مواطن، وتعني صفةً كلمة وطني وقومي، ومثل كلمة natnion ، والتي تعني (دولة، شعب، قوم، أمّة) ومن ثم كلمة citizenship والتي تعني مواطنة، وكلمة homeland والتي تعني وطن، لنرى أن كل هذه الكلمات المترجمة إلى اللغة العربية، قد خضعت من حيث الفهم لمعطيات الترجمة، ولآراء المترجمين، وإذا ما تتبعنا هذه الكلمات، أو المصطلحات، أو المفاهيم، ولنسميها ما نشاء على صعيد الفكر العربي القومي منه وغير القومي، لوجدنا أن الوطني يتعارض مع القومي، أو يتكامل معه في أحسن الأحوال، لوجدنا هذا الفهم يتعارض مع الفهم الأوروبي، الذي يشير إلى أن الوطني هو القومي والعكس صحيح. الأمر الذي يؤكّد أن الترجمة لهذه المفاهيم من اللغات الأوروبية إلى اللغة العربية هي ترجمة خاطئة.
ولما كان حزب البعث العربي الاشتراكي حزباً عربيّاً، وعقيدته تشمل الوطن العربي برمّته، ويحقّ لكل عربي الانتساب إلى صفوفه، فإن هذه العقيدة التي يدعو إليها تجعل من الوطني هو القومي والعكس صحيح، ومن دون ذلك ستبقى إرادة الشعب العربي الممتدة  من جبال طوروس، جبال بشتكويه، خليج البصرة، البحر العربي، جبال الحبشة، الصحراء الكبرى، المحيط الأطلسي، والبحر الأبيض المتوسط، إرادة مشتتة لا تمثّل الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة.
من هذا المنطلق نجد مدى تراجع الثقافة القومية الوطنية في مواجهة المخاطر الإقليمية، وعلى رأسها مخاطر ما يسمى بـ “الربيع العربي” المدمّرة للحياة العربية بكل ما تحمل الكلمة من معنى. ومهما يكن فإن النقطة المنهجية التي أرغب في لفت النظر إليها هي أن البحث في القضايا التي تمسّ المصير العربي تستدعي التعمّق الفكري في خصوصية الأمر المبحوث، كي يتمّ التمييز بين ما هو طارئ وبين ما هو مصيري، ولأن هذه المنهجية في التفكير تحصّن من الوقوع في المزالق والأوهام التي تنحرف عن الموضوعية، وتوصل إلى استنتاجات خاطئة، وربما خطيرة، كلما كان الابتعاد عن الحقيقة، وكان الاقتراب من الأوهام.
إن ما نرغب في الإشارة إليه هو أن المعرفة لا تكون معرفة بالمعنى الحقيقي، إلا من خلال دراسات معمّقة، ولاسيما عندما يمسّ الأمر عقيدة حزب سياسي كحزب البعث العربي الاشتراكي الذي اقترن وجوده بلملمة الأشلاء العربية في مشروع قومي وحدوي عربي تبناه هذا الحزب منذ أربعينيات القرن المنصرم وحتى يومنا هذا. مشروع أخلص له وأكد عوامله المستنبطة من صميم الواقع العربي لا من البحث المجرد المقارن مع حالات أخرى، وهذا يعني أن عقيدة البعث الوطنية القومية هي عقيدة متميزة بخصوصيتها الوجدانية، لم تأت بواسطة القياس والاقتباس من الأمم الأخرى كما يتوهم البعض، وإنما أتت نتيجة عوامل داخلية تحمل طابع الخصوصية العربية. الأمر الذي يؤكد أن البحث عن قوانين جديدة من منظور البعث يتطلب البحث داخل المجتمع العربي وليس خارجه، وبما أن لكل مجتمع خصوصيته، فإن الدراسات التاريخية المقارنة التي اعتمدها منظرو القومية العربية قد تساعد العرب في تحقيق وحدتهم المرجوّة كونهم ينتمون إلى أمة واحدة ووطن محدد، انتماء لا يقوم على الوعظ والإرشاد، بقدر ما يقوم على السلوك والمبادئ التي يعززها ويغذيها المخزون العربي المتوارث عبر التاريخ.
ما من شك أن التردي الذي حصل في المجتمع العربي تحت شعار ما يسمى بالربيع العربي، قد أفرز التشكيك في المبادئ القومية، وحتى في وجود هوية قومية عربية يشترك فيها العرب المجزأون تحت شعارات الخصوصية القطرية والهويات الإقليمية، الدينية، الإثنية الجغرافية… تشكيك ملموس من خلال الانحسار الحاصل للمد القومي العربي في المرحلة الراهنة، والذي جعل من الهوية القومية قضية للجدل، بعد أن كانت قضية بديهية، إنها اليوم ومن خلال أزمات المنطقة محل طعن، وتشكيك، لأن العرب في حالة من التيه، يعيشون الهزيمة والتشتت، وطالما هم في هذه الحالة من التردي لابد من أن يتلذذوا بجلد أنفسهم، دون أن يعلموا أن في تخليهم عن هويتهم القومية الوطنية، يكون تخليهم عن ماضيهم، وتراثهم، وأمجادهم، كما يكون تنكرهم لتجاربهم التاريخية ولوجودهم، وبالتالي يكون ضياعهم ليصبحوا خارج التاريخ والجغرافيا معاً، وحتى لا يكون هذا الخروج وجِدت عقيدة البعث القومية الوحدوية المفعّلة لحيوية الضمير القومي العربي المتجه نحو إرادة التحرر والتعيير، فمن لا يملك هوية وطنية قومية، لا يصنع تاريخاً، ولا يغيّر واقعاً، ولا يحلم بمستقبل ولاسيما في هذا العصر الذي مازال يعجّ بالمبادئ القومية الوطنية رغم هيمنة العولمة.
لقد مثّلت ولادة حزب البعث العربي الاشتراكي التي انطلقت من سورية، حركة وطنية قومية، شعبية، تتسم بخصب الحيوية والإبداع، وقابلية التجدد والانبعاث، لأمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة، حركة تظهر بأشكال متجددة ومتكاملة في مراحل التاريخ، وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية والتقدم البشري، وهي تنمّي الانسجام والتعاون بين الأمم. فحزب البعث العربي الاشتراكي، حزب عربي يشمل الوطن العربي برمّته، ويحق لكل عربي الانتساب إلى صفوفه، حزب يؤمن بأن القومية هي الوطنية، وأن الوطنية هي القومية، وهذه حقيقة خالدة لأن الشعور القومي الوطني يربط الإنسان العربي بأمته ربطاً وثيقاً، إنه شعور مقدّس بالقوة الخلاقة التي تشجع على التضحية، وتبعث الشعور بالمسؤولية التي لا تعالج السياسة القطرية، إلا من وجهة نظر المصلحة القومية العليا، لأن العقيدة الوطنية القومية التي يدعو إليها حزب البعث العربي الاشتراكي تمثّل إرادة الشعب العربي النضالية من أجل التحرر، وقيام الدولة العربية الواحدة.
من هذا المنطلق كان ومازال حزب البعث العربي الاشتراكي مؤسسة منتجة للكفاءات والأفكار، لبناء الإنسان العربي، فالبعثي الحقيقي هو من يتمثل أفكار الحزب، ويعيشها نضالاً إلى جانب الجماهير العربية من أجل تحقيق أهداف البعث في الوحدة والحرية والاشتراكية، وإلى أن تصبح هذه الأهداف خياراً في حياته اليومية بالفكر والممارسة، وهذا لا يكون إلّا عندما يدرك كل بعثي أن الوطني هو القومي، وأن القومي هو الوطني كما هو متعارف عليه لدى جميع أمم وشعوب العالم.  ومن هذا المنطلق المحمّل بالمبادئ والقيم العربية، تمكنت سورية شعباً، وجيشاً، وقيادة، من الصمود في مواجهة هذه الحرب الكونية الإرهابية المعلنة عليها من قبل التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي، ومن هذا المنطلق أيضاً مثّلت سورية إرادة الجماهير العربية في المقاومة، إنها ليست بحاجة إلى اجتهادات، أو إعادة ترتيب أولويات، وإنما هي بحاجة إلى تحقيق اللحمة الوطنية على مستوى الوطن العربي، التي تفعّل صمودها، وتسرّع في خواتيم انتصاراتها، لحمة وطنية لا تفرّق بين وطني وقومي من وجهة نظر الترجمة ليس على مستوى اللغة العربية فقط، وإنما على مستوى كل لغات العالم وأسوة بها. ولما كانت الرسالة الخالدة التي يؤمن بها البعث، هي الانتقال من واقع عربي مزرٍ يتمرد عليه البعث، إلى واقع يحقق طموحه، فلابد من الإقبال على معالجة حاضر العرب معالجة جريئة تكون نواة لنهضة عربية تشفي من التعب والألم والمعاناة والمفاسد…التي انتابت الحياة العربية، نهضة فيها نقد الذات والصراحة في فرز العيوب، وفيها التصميم المقاوم على إنقاذ الذات العربية، وهذا لا يكون إلّا في فهم الحاضر الجوهر الأساس لفهم الرسالة العربية الخالدة، والذي لا يمثّل فهماً عربياً من أجل المستقبل فقط، وإنما يمثّل فهماً جديداً من أجل تحقيق هذا المستقبل.
د. سليم بركات