شبح الحرب الباردة يحوم فوق المحيط الهادئ
ترجمة وإعداد: لمى عجاج
أشارت مناقشات ونتائج المؤتمرات الدولية واللّجان المشتركة المنبثقة عنها بشأن تغيرات المناخ إلى خطورة التغيرات المناخية في منطقة المحيط الهادئ أو ما يعرف بمنطقة القطب الشمالي، والناتج عن ارتفاع درجة حرارة سطح البحر، ما يهدد بذوبان الطبقات الجليدية وارتفاع منسوب المياه التي تغمر جزر المحيط الهادئ، حيث بات بإمكان السفن والملاحة البحرية عبور ممرات لم تكن قادرة على عبورها من قبل، لقد تشكلت هذه التغيرات نتيجة لانبعاث الغازات الدفيئة، خاصة غاز ثاني أوكسيد الكربون الناتج عن كثافة الوجود البشري وكثافة المصانع والمخلفات التي تسببت فيها الصراعات العسكرية، وذلك وفقاً لتقرير خدمة أبحاث الكونغرس الذي صدر عام 2019، لكن هذا التقرير لم يقنع ترامب بخطورة التغير المناخي فالموقف السياسي الذي اتخذه كان رافضاً تماماً لإيجاد حلٍ لمشكلة التغير المناخي، بل على العكس قام بزيادة الإنتاج المحلي والنفط الخام مدعياً أن أزمة التغير المناخي خدعة اختلقتها الصين.
وأشار هذا التقرير إلى أن هذه التغيرات سوف يكون لها نتائج مرتقبة على المناخ في الولايات المتحدة الأمريكية، وسيكون لها عواقب بيئية واقتصادية على الوجود البشري وعلى الأمن القومي، كما أنها ستؤثر على الموارد المعدنية والحيوية للدول التي تقع ضمن دائرة المحيط الهادئ، وهي عبارة عن ثماني دول ذات سيادة إقليمية، الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وروسيا وأيسلندا والنروج والسويد وفنلندا والدنمارك، والتي تعتبر إقليماً في جزيرة غرين لاند الواقعة بين القطب الشمالي والمحيط الهادئ، لذلك فهي تعتبر عضواً من أعضاء مملكة الدنمارك، أما جمهورية الصين فهي من الدول المطلة على المحيط الهادئ، ما دفع أمريكا إلى زيادة اهتمامها وعملياتها العسكرية في هذه المنطقة بعد أن بدأت مخاوفها تزداد من رغبة روسيا بتعزيز وجودها العسكري في أقصى الشمال، لذلك عملت على نشر قواتها البحرية في المنطقة بعد أن أدركت أهميتها، إضافةً إلى التواجد الدائم للجنود الأمريكيين وخفر السواحل والبوارج الحربية، فأمريكا تريد فرض سيادتها على المنطقة والسيطرة على مواردها ومقدراتها، وبشكل خاص على مخزون النفط والغاز الذي يقدر بربع احتياجات بحار العالم من موارد الطاقة، ما حدا بها إلى مطالبة مفوضية الأمم المتحدة بتجديد الاتفاق المتعلق بالجرف القاري، وذلك في ضوء اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار من أجل حماية مجالاتها البحرية وخطوطها الدفاعية، لكن روسيا أعلنت بالمقابل بأنها ستعمل على حماية مصالحها القومية والأمنية في المنطقة القطبية الشمالية، فقامت بتقديم طلبٍ معدل للأمم المتحدة بشأن توسيع الجزء الذي يخصها من الجرف القاري في منطقة القطب الشمالي على حساب ضم سلسلة جبال “لومونوسوف” والكيانات الجيولوجية الأخرى ذات الطابع القاري، كما قامت بإرسال رحلة بحث علمية إلى القطب الشمالي عام 2007، وقامت الغواصة الروسية بنصب العلم الروسي في قاع المحيط، حاولت روسية من خلال التجارب التي أجرتها البعثة أن تبرهن على أن الجرف جزء من أراضيها، ولكن الأمم المتحدة رفضت طلبها، بيد أن ما قامت به روسيا لفت اهتمام الرأي العالمي إلا أن المحللين اعتبروا أن هذا كان عملاً رمزياً بحتاً وأنه لا يعني امتلاك روسية لقاع المحيط.
لقد توقع العلماء بأن الاحتباس الحراري العالمي سوف يؤدي في العقود القادمة إلى خفض كتلة الجليد في أرخبيل كندا الشمالي بما يسمح للسفن باستخدام طريق الشحن عبر المحيط المتجمد الشمالي والمعروف باسم الممر الشمالي الغربي في أشهر الصيف، الأمر الذي تسبب بمنازعات قضائية كبيرة بين دول المنطقة عندما طالبت كندا بجميع الممرات المائية الموجودة في الممرات الشمالية الغربية، والتي تعرف بأرخبيل القطب الشمالي معتبرةً أنه إقليماً كندياً يخضع لمراقبة وسيطرة وتنظيم الدولة الكندية والعاصمة أوتاوا، بينما أكدت الأطراف الأخرى كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بأن الممر يجب أن يكون ممراً دولياً يصل بين المحيط الهادي والمحيط الأطلسي عبر الأرخبيل القطبي الشمالي الكندي.
وبالتزامن مع المفاوضات التي أجرتها الولايات المتحدة الأمريكية مع كندا بخصوص الحدود الثنائية بين الدولتين في بحر بوفورت قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتوقيع اتفاقية مع روسيا عام 1990 حول المنطقة المتنازع عليها في بحر بيرينغ، وصّدق مجلس الشيوخ الأمريكي على هذه الاتفاقية في عام 1991 في حين لم تتم الموافقة عليها من قبل مجلس الدوما الروسي. وكان آخر هذه النزاعات عندما طالبت كل من كندا والدنمارك بجزيرة هانز، وهي عبارة عن قطعة صخرية جرداء لا تصلح للعيش بين غرين لاند وجزيرة إلسيمري في كندا، التي أشار المحللون إلى احتدام الصراع بينها، فالدولتان تتنافسان للحصول على الممر البحري الذي سيتم تشكله في المستقبل عندما تبدأ الكتل الجليدية بالذوبان في القطب الشمالي، ما يمكن طرفي النزاع من بسط سيطرته في المنطقة.
لأجل ذلك يستمر الصراع على الاستثمار في المنطقة القطبية الشمالية، حيث أرسلت كندا كاسحتي جليد إلى المنطقة لمسحها جغرافياً، فالسرعة التي يذوب فيها الجليد جعلت العلماء يتوقعون أن يكون صيف القطب الشمالي خالياً من الجليد في غضون السنوات القادمة، ما يتيح لهم التنقيب عن النفط والغاز والمعادن، كما قامت الحكومة الروسية بإرسال ما يزيد عن22 كاسحة جليد وعدد من السفن الكبيرة التي تعمل بالطاقة النووية، كما أرسلت الصين كاسحة الجليد (شيو يلونغ) وتعمل على إنشاء كاسحة الجليد الثانية، إلا أن الأسطول البحري الأمريكي في المنطقة القطبية الشمالية غير جاهز بعد فحالته يرثى لها، وهو عبارة عن سفينتين متداعيتين بحاجة إلى إصلاحات كبيرة، الأولى تعرف بـ (النجم القطبي) والتي أصبحت قديمة العهد ولا تمتلك التقنيات الحديثة، ما جعلها كثيرة الأعطال، أما كاسحة الجليد الثانية فهي (كوست غارد كاتر هيلي) أنشأتها أمريكا حديثاً، وهي أكبر كاسحة جليد أمريكية يبلغ طولها 420 قدماً، فقد خصص الكونغرس أخيراً وبعد سنواتٍ من التأجيل مبلغ 655 مليون دولار لإنشاء كاسحة جليدية جديدة و20 مليون دولار لإصلاح السفينة المعطلة، بعد أن تخلت قوات خفر السواحل الأمريكية عن التدريبات التي كانت مقررة في القطب الشمالي بسبب مخاوف من تعطل كاسحة الجليد الأمريكية.
لقد ألقى التغير المناخي والاحتباس الحراري الحاصل في الشمال القطبي وفي جميع أنحاء الكرة الأرضية بظلاله على المنطقة ليس من الناحية المناخية فقط بل من الناحية السياسية، ففي ضوء ما سبق لا يستبعد أن تصبح منطقة القطب الشمالي حلبة مستقبلية لتصادم المصالح الإستراتيجية لدول عدة في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، ما سيؤثر على الصراع الجيوسياسي الراهن، وعلى العلاقات الدولية بين الدول المتنازعة، فعلى ما يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية شعرت بالندم لتجاهلها لأهمية منطقة القطب الشمالي لكل هذه السنوات، لذلك فهي تسعى الآن لبناء إستراتيجية كاملة دبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً لإعادة رسم الخرائط وتحديد الأماكن التابعة للأراضي الأمريكية في القطب الشمالي، فهي تسعى إلى لملمة أوضاعها المتناثرة في أكثر من منطقة، وذلك لتحفظ مكانها في تركيبة صنع القرار العالمي متعدد الأقطاب والأطراف فهي تبحث عن موارد أخرى تستحق النهب بعد أن نهبت الشرق الأوسط فهل يستعد القطب الشمالي لحرب عالمية؟.