الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

صباح ..صديق مساءاتنا

سلوى عباس

كان اسمه “صباح”!، لكن موعدنا اليومي معه كان مسائياً تحكمه اللهفة الكلثومية والشوق الأسمراني، تنهمر قلوبنا على وقع مجيئه تدق الثواني وتسبق الوقت، وتتراقص أرواحنا على صوت مذياعه يملأ المكان فنهرع إليه لنأخذ حصتنا من الفول النابت قبل أن يسبقنا أولاد الجيران، فيقبل علينا وهو يدفع عربته أمامه وقد زيَّنها بحبات الليمون والبندورة، ورتب “الزبادي” التي يضع فيها الفول بطريقة هندسية ملفتة تعطيها رونقاً جميلاً، وكان ما إن يرانا حتى تعلو الابتسامة محيّاه مرحباً بنا مغموراً بالفرح ملتبساً بالنشوة كحلم مغزول بلآلئ الحنين والود يملأ الدنيا زهواً، وربما أكثر ما كان يسعدنا في هذا الموعد أنه تتاح لنا فرصة للبقاء مع أولاد الجيران حتى ننهي وجبة الفول التي كنا نتمهل في التهامها لنكسب وقتاً أطول خارج المنزل، وأذكر كيف كانت أمي تقطّب حاجبيها عابسة بوجهنا عند عودتنا تعبيراً عن انزعاجها من تصرفنا وعدم رضاها عن الفوضى التي نعيشها بحجة شراء الفول، لكن الجميل أن تقطيبة الحواجب هذه كانت تتماهى بخيط من الحنان والخوف الذي تحاول إخفاؤه عنّا، لكن وللأسف كانت محاولاتها تخيب، لأنها وبمجرد شعورها أن أحداً منا يعاني من أمر ما كانت لهفتها تسبقها ولو أنها تغلفها بعبارات اللوم التي تنهال بها على أبي ليكون أكثر حزماً في التعامل معنا، وكم كنا نسعد عندما نراه يوارب ضحكته وسعادته أنه حقق لنا مرادنا دون أن تراه أمي وتظن أنه لا مبال بكلامها.
البائع “صباح” صديقنا المسائي لم يكن حضوره يقتصر على الشتاء فقط، بل كانت معيشته تعتمد على منتجات الفصول، ففي موسم “العوجا” والتي لم يكن سعرها في سوق البورصة في ذاك الزمن كما هو سعرها الآن، حتى أنها كانت أكثر نضارة ولذة، وبعدها يأتي موسم “عرانيس الذرة”، والتي يحضرها كما نرغب ونتمنى، فكان رفيق مواسمنا ومشاغباتنا التي كنا نستغل وقت حضوره لنخطف بعض الوقت نهرب فيه من نظام أهلنا.
هذه التداعيات عشتها منذ أيام حيث تناهى إلى سمعي صوت بائع جوّال ينادي على “العوجا” وقد راكمها في أرضية سيارته وقد كلح لونها، وكم وجدت الفرق كبيراً بين الحالتين، فالبائع “صديقنا القديم” لم يكن يحتاج للتدليل على منتجاته التي يحضرها، إذ كان يوكل المهمة لمطربي الزمن الجميل ليعلنوا عن حضوره، إضافة إلى أنه كان يغلّفها بسلوفان المحبة والرضى فيأتي جناه رزقاً وفيراً وخيراً عميماً وبركة.. لقد كان هذا البائع مثالاً لزمن شكّل لنا ملكوتاً من الطمأنينة والحب.. ملكوتاً من حياة لا تشبه الحياة.. شمسه تصبغ الصباح بـ “صباح”، وتغير الشروق إلى حيث الشروق..
أما الآن، اختلفت ملامح الزمن ومعاييره مثل ناسه، أصبحنا نهمل الأولويات في الحياة ونركز على الهوامش، ويهمنا أن نظهر أمام الآخرين كما يرغبون لا كما نقتنع، نعيش التناقض والازدواجية في سلوكنا وتفكيرنا وعلاقاتنا، نبيح لأنفسنا ما نحاكم الآخرين عليه وندينهم به.. تتساوى الأضداد، فنرى من يكتب عن الحب لكنه لا يعيش إلا سواد قلبه، ونقابل من يشكو من غياب الثقافة عن صحفنا وبرامجنا لكنه عندما يكتب نرى نتاجه بلا روح، ونرى من قضى عمره في مكان وظيفته وأعطاه عصارة روحه وفكره، يجد نفسه في لحظة من الزمن وقد انتهت صلاحية وجوده فيه ومطالب بمغادرته، وبالمقابل شخص آخر قضى عمره يحصد المكاسب من عمله دون أن يقدم مقابلاً، فيكافأ بترقيته لمرتبة خبير، حتى مجالس عزائنا تحولت إلى ما يشبه المهرجان، لم يعد هناك احترام للحظات الحزن، بل أخذت طابع الواجب و”البريستيج”، مع أنها الحالة التي يفترض أن نعيش فيها صدقنا مع أنفسنا ومع الآخر، ومن ثم يقيّم المعزون حسب مراتبهم وليس بصدق قلوبهم وبياض أرواحهم. فلا تسأل لماذا يفقد الناس عفويتهم وصدقهم.. بل اسأل لماذا لا يصبحون كذلك إزاء كل ما يمكن أن نفقده في يوم أو في لحظة.. بل لنسأل أنفسنا قبل الآخرين، ما الذي يجعلنا نصمد أمام تحولات الزمن وغدراته؟!.