الحدث السوداني في سياقه الأوسع
لا أعتقد أن أحداً يماري في أحقية المطالب الشعبية السودانية ومشروعيتها التاريخية وضرورة تلبيتها، بعد أن تآكلت شرعية النظام إثر فشله المزمن في علاج الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في بلد يوصف بأنه سلة غذاء العرب، بل وتقزّمت جغرافيته بانفصال الجنوب عملياً ومناطق أخرى نظرياً.
لكن قراءة الحدث ومجرياته وتغيراته ومآلاته المفتوحة على سيناريوات عدّة، لا تكتمل دون وضعه في سياقه الأوسع، وهو سياق ربما لا ينتبه البعض، في خضم انشغاله بالأحداث الآنية وسرعة جريانها وتقلباتها، بأنه أشبه ما يكون بمرحلة أواخر الحرب العالمية الأولى وما بعدها، بمعنى أننا نعيش حقبة تكوينية، وخاصة بعد الأزمة المالية العالمية ونهاية الحرب الباردة، تكون الشعوب المظلومة وقودها وضحيتها أيضاً – درس مراسلات (حسين مكماهون) مثلاً – ترتسم فيها مصائر وتتعدّل حدود وتنشأ محاور جديدة، ويُبنى نظام عالمي جديد، ليس خيّراً بالضرورة – تحاول واشنطن اليوم عرقلة مساره عبر نشر الفوضى بين الجميع خصوماً وحلفاء- على أنقاض سابق استنفذ مدته وعمره التاريخي وأصبح، بحقائق الأمور، غير معبّر عن موازين القوى الجديدة.
وكغيره من الدول لا يخرج ما يحدث في السودان فعلياً، رغم صدق الحراك الشعبي، عن كونه امتداداً لعمليات الهندسة الجيوسياسية المتسارعة، سعياً لخلق وتدعيم اصطفافات متقابلة في سياقين اثنين: دولي، لتحسين الشروط والمواقع للطامحين في قيادة العالم الجديد، وإقليمي، يحاول جاهداً حماية رأسه عبر “الالتحاق الذيلي”، بطبيعة موازين القوى والأحوال، بالسياق الدولي وحجز مكان فيه عن طريق الظهور بمظهر الأنظمة ذات الفائدة، ولو على حساب أنظمة أخرى من المحور ذاته في أول لحظة تهتز فيها لأي سبب من الأسباب.
وحين حدث هذا الاهتزاز في السودان على خلفية أزمة اقتصادية – من اللافت هنا أن حليفتيه السعودية والإمارات لم تسارعا حينها لإنقاذه مالياً، رغم مساهمته بدماء جيشه وشعبه في “مغامرتهما” اليمنية، وهذا ما يثير أسئلة حول قرار واضح بإنهاء دوره كشخص– ثم تحوّل مطالب الشعب إلى سياسية، سارعت هاتان الدولتان، كأصيلتين عن نفسيهما ووكيلتين عن الخارج، إلى محاولة انقاذ “الاستثمار” هناك عبر التضحية بالبشير ذاته، علماً أن الرجل ونظامه لم يكونا، على الأقل في أعوامه الأخيرة، سوى بيدق في يد المحور الغربي وأتباعه في المنطقة، وحين جاء الرد الشعبي سلبياً كانت الخطوة الثانية – وهي إماراتية منفردة في ظل الصراع البيني الاماراتي السعودي على الزعامة- بإخراج بيدق آخر للعلن، فيما الشعب ومطالبه المحقّة آخر ما يريده هؤلاء وأول ما يحاولون إجهاضه.
بهذا المعنى، وبكلام أوضح، لم يكن الانقلاب على البشير، ثم “الانقلاب في الانقلاب”، إلّا نقطة سعودية إماراتية تُسجل في المرمى التركي القطري من جهة – وهو عين ما يجري في ليبيا اليوم – ومحاولة حثيثة، من جهة أخرى، لقطع الطريق أمام تغيير شعبي فعلي قد ينقل الخرطوم إلى مكان وموقع جيوسياسي آخر، وبمعنى آخر هو انتصار للإسلام السياسي الأمريكي السعودي بنسخته الوهابية على الإسلام السياسي الأمريكي التركي القطري بنسخته الإخوانية، وتكفي مراجعة بسيطة لتاريخ وتوجّهات الانقلابيين، بنسختيهم، لتتضح فوراً المرجعية السعودية الإماراتية الدينية والسياسية لهم، وبالتالي الأمريكية، وكان من اللافت في هذا السياق أن أول من التقى رأس الانقلاب الثاني مرحباً وداعماً هو القائم بالأعمال الأميركي في الخرطوم.
هي إذاً حقبة تكوينية بسياقيها الدولي والإقليمي، ورغم أنه لا يمكن إنكار مطالب الشعوب كما سلف، إلا أن درس التاريخ واضح وصريح، فلا يمكن لثورة على نظام فاسد وتابع كنظام البشير أن تنجح دون أن تكون موجهة أيضاً ضد أولياء أمره، سواء في المنطقة أو خارجها، خاصة أن هؤلاء متمرّسون في عملية إخراج الشعوب من النوافذ بعد أن دخلت من الأبواب، وما يُكتب في عواصم “صفقة القرن” العربية لن تحصد نتائجه إلا في واشنطن، وذلك هو مآل السودان الواضح حتى الآن .. إلا إذا قرأ أبناؤه دروس التاريخ وعبره.
أحمد حسن