ليمونة علي
بقيت “أم محمد”، غير قادرة على النوم طوال الليل، فاليوم جاء زوجها عصرا ليطمئن على أسرته، وأخبرها أنه سيكون مشغولا في الغد، وذلك بإخراج وطرد آخر جندي فرنسي محتل عن تراب البلاد، عندما وقعت كلمات الرجل على مسامع زوجته كما لو أنها أغان مفرحة، بقي قلبها ينبض بسرعة شديدة حتى شعرت أنه سينخلع من مكانه.
أيقظت زوجها بعد أن جافاها النوم تنتظر الفجر ليبزغ لتطلب إليه بأنها تريد أن تشاهد بعيونها كيف سيخرج آخر جندي فرنسي محتل من بلادها، تريد أن تراه والذل يرتدي ملامحه، بينما الخزي والعار يقفان عن يمينه وشماله، وهو يمشي خطواته الأخيرة خارج الديار، فهي من السوريين الذين عانوا ما عانوا من الاحتلال الفرنسي، وفي كل يوم تصحو على نار مشتعلة في روحها، فقبر أخيها الذي استشهد في حربه ضد هذا الاحتلال، ها هو يرقد تحت شجرة الليمون، التي زرعها وأباه في طفولته، وسميت باسمه، “ليمونة علي”، القبر الذي يطالعها مع كل مشرق شمس، يجعل يومها يبدأ بوليمة دافئة من الدموع والأنين، وهي تتذكر طلبه إليها في كل زيارة يجيء بها لعندها، باعتبارها آخر من تبقى من أهله، وهو يمازحها: “ليلى بالله عليك بس موت ادفنيني تحت شجرة الليمون”، وكان كلامه في تلك الأيام الماضيات يغيظها، فتبدأ في صب جام خوفها عليه، وكما تودع أم طفلها وهو ذاهب إلى المدرسة، كانت تودعه في نهاية كل زيارة له لعندها، وفي يده كيس فيه “قطرميز” مكدوس، وكيس زعتر، وعبوة متوسطة فيها زيت من ثمر أرضهما.
في الموعد الذي كان يجيئها فيه كل شهر ليوم واحد، انتظرت أم محمد أخاها بعد أن قامت بتسخين المياه له على الحطب ليستحم، وأوشكت أن تنهي إنضاج الطعام الذي يحبه “قمحية”، وعيونها تروح وتجيء بين الساعة المعلقة على الحائط وبين النافذة التي تطل على الطريق الوحيد الذي سيجيء منه كما كانت واثقة، إلا أن اليوم مضى وهجم الليل هجوم الحرس، فبقيت تبكي وتنوح طوال الليل دون أن تكون متأكدة من السبب الذي عطله عن المجيء، طمأنها الزوج بكون أمور الجيش تتغير حسب المعطيات الجديدة، وربما يأتيها في الغد، وهذا الغد مضى وكل غد بعده ولم يجئ أخوها الوحيد، حتى اليوم الذي جاءها محمولا على أكتاف الرفاق، ونعشه مغطى بالريحان.
كانت تمسك بيد زوجها وهي تكاد تهرسها لشدة ما ضغطت عليها، فهي لا تريد أن تبكي، بل هي قادمة لتشمت بالمحتل الذي اندحر يجر خلفه ذيول الخذلان والاندحار.
وقبل أن يغيب وجه الجندي الفرنسي الأخير عن مجال رؤيتها صاحت بكامل صوتها، “قم يا علي وانظر كيف طردهم رفاقك بعد أن مرغوا أنوفهم بالوحول، قم وانظر الفرحة مرتسمة على محيا كل وجه سوري”، وعندما بدأت الباخرة بالابتعاد حتى غابت عن النظر، بدأت أم محمد تزلغط بأعلى صوتها، بينما الدموع التي حبستها طوال الوقت بعد الفخر الذي حط على كتفها كحمامة بيضاء، تجري من مقلتيها كينابيع نقية في كروم وجبال وهي تقف وتراقب ما يجري، “قم يا علي، قم يا حبيب أختك، فاليوم عيدك الذي اشتهيت طويلا، قم يا بن قلبي قم.
تمّام علي بركات