صهيون التي بها يتذرعون
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
حين نتكلم عن “الصهيونية” فإننا نتكلم عملياً عن البعد السياسي الذي واكب نشوء الديانة اليهودية –ولا نقول الموسوية– في بابل في أواسط الألف الأول قبل الميلاد، أو تحديداً في عام 516 ق.م حين ظهرت كلمة “يهود” لأول مرة كما يقول المؤرخون، إذ أنه جرى الربط بين هذه الديانة وبين المسعى اليهودي للسيطرة على فلسطين، وعلى مدينة القدس بشكل خاص، حيث جرى اختيار موقع محدّد في جنوب غرب القدس أُطلق عليه اسم “صهيون” ليكون رمزاً لهذا المسعى.
وبافتراض أن هذا المكان المسمّى “صهيون” كان موجوداً في القدس بالفعل، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان هذا المكان يحمل أصلاً تسمية يهودية أو موسوية تتمثّل بكلمة “صهيون” لكي يتعلق به اليهود؟، وهل كان المكان الوحيد الذي يحمل هذه التسمية أم كانت هناك أماكن أخرى في المنطقة أو في العالم تحمل هذا الاسم؟. في الإجابة عن هذا السؤال يكفي أن نشير إلى الحقيقة التالية: إن من يطالع أسفار التوراة الخمسة المنسوبة إلى موسى، والتي يُفترض أنها أساس الديانة اليهودية وما ارتبطت بها من نزعة صهيونية لن يجد كلمتي “يهود” و”صهيون” في هذه الأسفار، كما أنه لن يجد ذكراً لأورشليم أو تحديداً لدور ديني خاص لها. وفي ذلك دلالة قاطعة على أن هذه التسميات أُقحمت على “الموسوية” في زمن متأخر لاعتبارات سياسية تتمثّل في محاولة السيطرة على مركز العالم القديم المتحكم بعقدة التجارة العالمية.
وحين نتقصّى المصدر الذي ورد فيه ذكر “صهيون” للمرة الأولى، نجد أن هذا الذكر ورد في سياق قصة داود بالقول: “وزحف داود وكل إسرائيل على أورشليم {هي يبوس}، حيث كان اليبوسيون سكان تلك الأرض. فقال سكان يبوس لداود: “إنك لا تدخل إلى ههنا”. لكن داود استولى على حصن صهيون، وهي مدينة داود” {سفر الأخبار الأول 11: 4– 5}. وفي موضع آخر يرد القول “وأقام داود في الحصن، ولذلك سُمّي مدينة داود. وبنى المدينة من حوله من ملّو فما حولها، ورمّم يوآب سائر المدينة” {الأخبار الأول 11: 7– 8}. ونفهم أن داود أبقى تابوت العهد في خيمة في صهيون. وهذا ما يتضح من القول عن سليمان بعد بناء الهيكل “حينئذ جمع الملك سليمان إليه شيوخ إسرائيل وجميع رؤساء الأسباط وعظماء آباء بني إسرائيل في أورشليم، ليصعدوا تابوت عهد الرب من مدينة داود التي هي صهيون” {الملوك الأول 8: 1}. ومن الملائم أن نذكر في هذا السياق القول “ولم يكن في التابوت إلا لوحا الحجر اللذان وضعهما فيه موسى في حوريب، حيث عاهد الرب بني إسرائيل عند خروجهم من أرض مصر” {الملوك الأول 8: 9}. وهذا من شأنه أن يثير التساؤل حول المصدر التاريخي للأدبيات اليهودية اللاحقة التي تشكّل عماد “الكتاب المقدس”، إذ أن لوحي الحجر المشار إليهما يرجح أنهما يقتصران على الوصايا العشر التي هي صلب الشريعة الموسوية.
بغضّ النظر عن موقع صهيون، فإن المعطيات السابقة –وهي الأقدم تاريخياً– التي يرد فيها ذكر “صهيون” لا تبيّن على نحو يقيني ما إذا كان هناك حصن اسمه صهيون احتله داود، وما إذا كان هذا الحصن يقع ضمن مدينة أو ضمن حيّ أو قرية بالقرب من مدينة أعطي بعد احتلاله اسم “مدينة داود”. لكن إعطاء المكان اسم “مدينة داود” يرجّح أنه كان يحمل أصلاً اسم “صهيون”. وبالتالي، فإن العودة إلى اسم “صهيون” بعد تجاوزه، هو أمر يثير الاستغراب، إذ أنه لا يوجد مبرّر منطقي للتراجع عن تسمية “مدينة داود” لحساب “صهيون”. والأغرب أن يجري أيضاً نقل الاسم ذاته من موضع مفترض في القدس إلى موضع آخر هو جبل الموريا حيث المسجد الأقصى، بل وأن يطلق هذا الاسم في بعض الأدبيات اليهودية على المدينة ككل، بل وعلى البلاد ككل.
ما الذي تعنيه كلمة “صهيون” أساساً ليجري التعلق بها على هذا النحو؟.
لنسلّم بأن الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، فهناك من يقول إن التهجئة العبرية في الأصل هي “صيّون”، وأن “صهيون” هي تهجئة بالصيغة العربية مأخوذة عن الصيغة السريانية للاسم التوراتي. وثمّة من يقول إن جبل صهيون معناه الجبل المشمس الجاف. ويرى د. محمد بهجت قبيسي أن كلمة “صهين” جذرها صه، وكلمة صهيون جذرها صهوصهي [حيث الواو والنون لاحقة كنعانية]. وفي اللغة فإن صه تأتي بمعنى اسكت، وصهصه بالقوم زجرهم. والصهوة من كل شيء أعلاه. والبرج يتخذ فوق الرابية. ونبع الماء في الجبل. والحقيقة أن كلمة “صيون” سلتية تقابلها الصوى والصها وهي علامات الطريق في اللغة العربية. وكانت علامات الطرق حاجة أساسية لسكان بلادنا القدماء سواء في الترحل والانتجاع أو في تنقل القوافل التجارية. وفي هذا السياق وُجدت ولا زالت توجد حتى الآن علامات طرق حملت اسم “أمر” أو “أمور”، وهي “الأمارة” أي العلامة، وكان بُناتها من عرفوا باسم الأموريين. كذلك وُجدت ولا زالت توجد علامات طرق تحمل اسم “إرم” وجمعها “آرام”، وهي تشير بدورها إلى الآراميين. وهناك علامات طرق حملت اسم “منارة” وأخرى حملت اسم الصوة أو الصهوة وجمعها الصوى أو الصهى، مثلما وجد الصيون، وارتبط اسمه بسكان بلادنا القدماء من السلت. ويتخذ الصيون شكلاً معيّناً ارتبط أولاً بأصحاب الحضارة الميغاليثية، وهي الأكثر قدماً. وكان أصحاب هذه الحضارة حيثما ضربوا في الأرض أقاموا مثل هذه العلامات على الطرق. ويتفق المؤرخون على القول بأن العقدة الميغاليثية التي انتشرت في غرب العالم وشرقه بدأت من فلسطين. وهذا يرجح أن أصحاب الميغاليثية في فلسطين هم أصحاب الصيون الأصليون. ويبقى الصيون دليلاً مادياً آثارياً يصل بين هؤلاء وبين السلت.
لقد انتشر “الصيون” مع أصحابه الأصليين في العالم القديم بكل الاتجاهات انطلاقاً من فلسطين، وجاء اليهود أو المتهودون من بابل بعد زمن طويل، ليدّعوا الوصل بـ”صيون” الذي في القدس على وجه التحديد. ونحن لا نستبعد أن يكون السلت أو أصحاب الحضارة الميغاليثية من قبلهم قد أوجدوا في القدس صيوناً ليكون علامة طريق أساسية على خطوط التجارة القديمة، وهنا علينا أن نتذكّر أن من أسماء القدس الأخرى ورد اسم “مينورتا” أي “المنارة”. ومينورتا أو المنارة هذه هي صيغة أخرى تدلّ على وجود علامة على الطريق التجاري أي “صيون”. وفي جميع الحالات نحن أمام معطيات تؤكد على عروبة القدس، وعلى ارتباط المنارة أو الصيون فيها بأهلها العرب ونشاطهم التجاري. ولكن ربما حملت أيضاً دلالات أعمق من دلالة العلامة التجارية.
حين ننظر إلى العلامات التجارية على الطرق نظرة موضوعية، لا بد لنا وأن نسلّم بأن هذه العلامات ليست علامات حدود، وإنما هي علامات وُجدت ليهتدي بها المسافرون، مثلما وُجدت لخدمة القوافل التجارية في انتقالها من مكان إلى آخر. إن أنماط هذه العلامات أو الأسماء التي تُطلق عليها قد تشير إلى هوية سكان المنطقة التي وُجدت فيها زمن إنشائها. لكنها لا ترتب حقاً دائماً أو احتكاراً غير قابل للتغيّر والتبدل وفق حركة السكان ووفق التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي ووفق حاجة القوافل التجارية التي تكون ناشطة في فترة من الزمن، ثم تطرأ ظروف تجهز على هذا النشاط وتحوّله في اتجاهات أخرى أو تحيله إلى وسائل نقل أخرى.
إن رغبة أصحاب الديانة اليهودية المتشكّلة في بابل في السيطرة على عقدة الحركة التجارية في العالم القديم متمثّلة بأرض فلسطين، هي التي جعلت هؤلاء يحولون “صيون” القدس إلى رمز ديني وسياسي يبررون به السعي لفرض هذه السيطرة. لكن هذا المسعى أيضاً ينطوي على دلالة دينية تتنافى مع الموسوية في صياغتها الأصلية، بل إنها تتناقض معها. كيف؟.
ما تختلف به كلمة “صيون” السلتية كتسمية لعلامة تُقام على الطرق التجارية وغير التجارية عن التسميات الأخرى، هو أنها تحمل في وقت واحد دلالتين: مادية وميثولوجية دينية. فكلمة “صيون” مأخوذة من مفهوم الصيانة والحفظ والحماية. ومع أن هذه المعاني هي المستهدفة من تلك الإنشاءات التي تحمل اسم “الأمر” أو “الإرم” أو “المنارة” إلا أن كلمة “صيون” السلتية تتميّز عنها جميعاً بأن فيها إشارة مباشرة إلى الإله المعبود على أنه هو من ينشد منه بناة “الصيون” صيانتهم في حلّهم وترحالهم. فهو الصائن والحافظ والحامي، وكأن كلمة صيون هي اسمٌ للإله أو من أسمائه الحسنى.
هذه الحقيقة التاريخية نستطيع أن نتثبّت منها من خلال طقس لا زال السلت في أسكوتلندا يؤدونه حتى الآن. لقد اعتنق هؤلاء الديانة المسيحية، وكان اعتناقهم لها مبكراً للغاية، ولم يواكبه أي اضطهاد للمبشّرين المسيحيين الأوائل ممن حملوا اسم الكلدانيين أو كيلي- دي Celi-de بمعنى أصدقاء الإله الخفيّ كيلي، وهي تسمية تحيلنا أيضاً إلى اسم عُرفت به مدينة القدس قديماً هو “كيلة”، لكن هذا لم يحل دون استمرارهم في عبادة الإله الواحد تحت اسم “صيونيت” المشتق كما هو واضح من “صيون”. لكن “صيونيت” لا يتمثّل في تلك العلامات الحجرية المنصوبة على الطرق، فهو الإله الذي يجتمعون في يوم محدّد من أيام السنة على شاطئ اسكوتلندا الشمالي ليسكبوا له الجعة في البحر، وليناشدوه بأن يصون {يحمي} سفنهم ومواسمهم، وأن يرزقهم، ثم يتجهون إلى الكنيسة ليكملوا طقوس هذا الاحتفال بحفاوة.
لقد طوّر أصحاب “الصيون” الأصليون إذن مفهوم الصيون الحجري إلى “صيونيت” {الصائن أو الحافظ} ليصير رمزاً من رموز ديانة التوحيد. ولا أحد يستطيع الجزم فيما إذا كان اسم “صيونيت” المعطى للإله كان قائماً عندهم قبل هجرتهم من الوطن القديم أم لا. فلعلّ كل “صيون” أقاموه في الوطن القديم، أو على طريق هجرتهم إلى الوطن الجديد، كان يرمز أصلاً إلى ارتباطهم بالإله الحامي والرازق والصائن “صيونيت”. كل ما في الأمر أنهم بعد ركوبهم البحر، وبعد أن ارتحلوا إلى وطن يشكل فيه البحر مصدر رزقهم الأساسي، انتقلوا من رمزية الصوى “الصيون” على الطرق البرية إلى رمزية الإله الخفيّ المهيمن على البر والبحر “صيونيت”.
من الواضح أن “صيونيت” بالنسبة للسلت الإسكوتلنديين يتواجد في كل مكان، أما “صيون” {صهيون} بالنسبة لليهود فهو مجرد مكان، ولكن أين كان هذا المكان؟.
لنلاحظ بداية أن التغني بصهيون وإعطاءه دلالات أوسع بكثير من دلالته كمجرد مكان بدأ من بابل، أي بعد ما سُمّي بالسبي البابلي. فهل كانت صهيون التي سُبي منها أسلاف اليهود توجد في القدس بفلسطين أم في موقع آخر؟.
لقد اجتهد العديد من الباحثين العرب لإثبات أن السبيين الآشوري والبابلي كان مسرحهما جزيرة العرب وليس فلسطين، وإن تعدّدت الاجتهادات أيضاً في تحديد المواقع. والحقيقة التي يجب أن ننتبه إليها هي أن القرآن الكريم اعتمد موطناً واحداً لليهود تمثّل في يثرب وخيبر ووادي القرى داخل جزيرة العرب. وهي الأماكن التي اصطدم فيها المسلمون الأوائل مع اليهود. وأما بالنسبة إلى المؤرخين فيميلون إلى الافتراض بأن اليهود حلّوا في تلك الأماكن بعد أن جاء بعضهم مع الملك البابلي نبونيدس في أعقاب السبي البابلي، والذي اتخذ من تيماء مقراً له. لكن التدقيق في قصة خروج بني إسرائيل من مصر زمن موسى عليه السلام يبيّن أنهم استقروا في تلك الأماكن منذ ذلك الزمن. وما من مبرّر عندئذ للافتراض بأنهم تركوا تلك الأماكن باختيارهم ثم عادوا إليها للاستيطان فيها، خاصة وأنها ظلت طوال الوقت ذات أهمية بالغة في موقعها على الطرق التجارية بين اليمن والشام.
وتوخياً للدقة نقول إنه كان لبني إسرائيل موطن آخر في جزيرة العرب كانت قد انقطعت علاقتهم به زمن البعثة المحمدية يتمثّل في القرية التي كانت حاضرة البحر. والواقع أن وجود موطنين لأسلاف اليهود في جزيرة العرب، بل ثلاثة مواطن، يتفق بشكل عام مع رواية التوراة حول وجود مملكتي إسرائيل ويهوذا، مع توطن ثلاثة أسباط خارج ما ادعوا أنها “الأرض الموعودة”.
والسؤال الآن: هل كانت هناك صهيون محتملة غير صهيون المدّعى أنها في القدس؟.
من بين النصوص التي تستوقفنا ونحن نبحث عن إجابة لهذا السؤال نص يقول: “أرسلوا خرفان حاكم الأرض من سالع نحو البرية إلى جبل ابنة صهيون” {إشعياء 16: 1}. و”خرفان حاكم الأرض” في هذا النص يفترض أنهم اليهود أو أسلاف اليهود. وأما “سالع” فإن إيرادها في هذا النص ينطوي على إشكالية كبرى. فما من موضع اسمه سالع في فلسطين، وإذا كانت البتراء عاصمة الأنباط في وادي موسى في شرقي الأردن قد عُرفت أيضاً باسم سلع، فإنها لم تكن قائمة في زمن إشعياء الذي نُسب إليه النص. ثم إن القول بإرسالهم من سالع “نحو البرية” وصولاً إلى “جبل ابنة صهيون” يثير إشكالية إذا قصد به جبل القدس. هذا عدا عن الحقيقة القائلة بأن النصوص اليهودية تتحدث عن صهيون في حدّ ذاتها كجبل أو كمرتفعات جبلية.
هل نستطيع أن نجد موقعي “سالع” و”صهيون” متقاربين في نطاق جغرافي آخر؟. نعم، إن سلع جبل بسوق المدينة المنورة، وقال الأزهري: سلع موضع قرب المدينة. وسلع: جبل في ديار هذيل. وسلع موشوم: وادٍ في ديار باهلة. وسلع الكلدية: جبل أو وادٍ لباهلة أيضاً. وسلع الستر: موضع في ديار بني أسد في جزيرة العرب. وذو سلع: موضع بين نجد والحجاز. ومبدئياً يمكن أن يكون أي واحد من هذه المواقع التي تحمل اسم سلع هو سالع التوراة، وما يرجح المكان هو “جبل ابنة صهيون” الذي يُفترض وقوعه “نحو البرية” انطلاقاً من “سالع” حسب الوصف. فأين كان هذا الجبل؟.
حين نتقصّى أسماء المواقع نجد التالي:
1– صهى: في بلاد شهران.
2– الصهو: موضع بحاق رأس أجأ. وهي شعاب من نخل ينجاب عنها الجبل لجذيمة من جرم طيء.
3– الصهوة : في جبل جهينة بنواحي المدينة.
4– صُها: وهي عدة قلل في جبل بين المدينة ووادي القرى يُقال لكل واحدة منها صهوة.
واضح إذن أن الترجيح في هذه الحالة لا بد وأن يتجه إلى منطقة المدينة المنورة حيث توجد سالع وحيث توجد الصهوة وصها، وحيث توجد برية بين سالع وبين كل من المكانين، وحيث توجد منطقة خيبر.
على كل حال، بغضّ النظر عمّا تعنيه مثل هذه المقاربات للجغرافيا التوراتية، فإن ما يجب التسليم به هو أنه لا يمكن لأي جماعة في هذا العالم أن تجمّد حركة الحياة لتخضعها لمزاجها الخاص، وأن تزعم لنفسها حقوقاً دون أن تسلّم بحقوق الآخرين بالمقابل. ثم إن وقفة عند الاستغلال اليهودي لكلمة “صهيون” بالذات تبيّن أنه كان استغلالاً منتحلاً مفتعلاً.
لقد رأينا أن “صهيون” في الأساس يفترض أنه إذا صحت رواية “الكتاب المقدس” أو بالأحرى “العهد القديم” منه، هو “حصن صهيون” الواقع في القدس أو بجوار القدس {يبوس} الذي قالوا إن داود احتله، وقيل إن اسمه صار “مدينة داود”، أو أنه أُقيمت من حوله مدينة داود. فإذا كان الأمر على هذا النحو، فما الذي أخذنا إلى جزيرة العرب للبحث عن صهيون هناك بدلاً من المصادقة على الموقع المذكور في “الكتاب المقدس”؟.
ما أخذنا إلى هذا الخيار يتمثّل في الحقيقة القائلة بأن التنقيب الآثاري في القدس، وفيما قيل إنه “جبل صهيون”، وهو الجبل الواقع جنوب غرب المدينة، ويوجد فيه الحي اليهودي والحي الأرمني، وبغضّ النظر عن الزمن الذي يمكن أن نحدّده لوجود داود ومن بعده سليمان، يقودنا إلى استنتاج معاكس تماماً للرواية التوراتية. فكل ما عُثر عليه في جبل صهيون أوان للطبخ في كهف تحت الجبل تعود إلى العصر الحجري الحديث. وباستثناء ذلك لم يُعثر على آثار تشير إلى الحصن الذي استولى عليه داود كما زعموا أو إلى المدينة “مدينة داود” التي بُنيت في ذلك المكان كما ادّعوا. فإذا كان التنقيب الأثري قد قادنا إلى هذه النتيجة ألا يكون أمراً منطقياً أن نبحث عن “صهيون” هذه في أي مكان آخر بعيداً عن القدس؟.
قد يقال: ولكن هل من مؤشرات على أن الأماكن التي حملت أسماء مثل الصهوة وصها والصهو في جزيرة العرب شهدت قيام مدن أو مشاريع مدن طالما أن البحث الأثري في القدس قادنا إلى لا شيء؟. ونقول: إن بحثاً آثارياً منهجياً لم يجر في جزيرة العرب ليكون من الممكن اعتماد نتائجه لتقرير صحة أي احتمال من عدمه. ثم إن الأوصاف أو المواصفات التي ترد في أسفار “الكتاب المقدس” حول “صهيون” تبدو منطوية على قدر كبير من المبالغة والتزييف.