“بأي ذنب رحلت” وفلسفة الوجود العبثي
بعد روايته الأولى “رفيف الفصول” التي نال عنها جائزة الدولة للكتاب، يطالعنا الكاتب المغربي محمد المعزوز بروايته الثانية الصادرة حديثا عن المركز الثقافي للكتاب، والموسومة “بأي ذنب رحلت” المرشحة حاليا ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.
في هذه الرواية الاستفهامية يغوص المعزوز عميقا في انزياحات فلسفة الحياة والموت وعلاقتها بلاجدوى الوجود عبر بناء سردي مفتوح يتيح للكاتب المناورة والانفتاح على القضايا المتشعبة والمتداخلة زمانيا، والمزاوجة بين الفلسفة الوجودية والسياسة من خلال رسم شخصيات نخبوية تجسد ذلك الجيل المتطلع إلى التغيير الشامل في بنية المجتمع العربي وأنماط تفكيره، تغيير ليس وجود المعزوز كعضو في الرابطة الانثروبولوجيا السياسية بمعزل عنه.
يعتمد الكاتب في بنيته السردية على أسلوب الراوي الأوحد الشاهد على تفاصيل الأحداث، المتحكم بالشخصيات المرسومة والمهيمن على مصائرها،فهو ضمير المتكلم العارف بكل التفاصيل ظاهرها وباطنها، راهنها وحاضرها ومستقبلها، دون انحياز عاطفي إلى شخصية دون الأخرى باستثناء شخصية رؤوف التي جعلها رمزا لتيار النخبويين الانتهازيين الذين لم تنج مرحلة من وجودهم كفرسان الفكر الميكافيلي”الغاية تبرر الوسيلة” المتسلقين على هياكل رفاقهم “..حاول إيقافها بنبرة حادة، لكنها استرسلت في حديثها، لتقرر بأن هذا الرجل هو لحظة البلاد التي تتعثر فيها خطوات التغيير، وتسقط فيها الأحلام ترابا ورمادا..”.
راوٍ يلتقط كل مايبدو من صور ومشاهد بلغة شاعرية ذات بلاغة عالية، تحيلنا في أماكن كثيرة إلى ثنائية أحلام مستغانمي الباكورية “ذاكرة الجسد، وفوضى الحواس” من حيث الاتكاء على الشعرية بفجائعيتها ومستويات البلاغة وجمالية الإيقاع الهادفة لتحقيق دلالات انزياحية غير قادرة اللغة العادية على أدائها،وهي سمة باتت استعراضية تنم عن تمكن الكاتب من ناصية اللغة، لاسيما وان البطل في هذا النص هو الإنسان بمعزل عن المكان والزمان اللذان يجسدان عنده دورا بنائيا لا أكثر.
يختصر المعزوز في نصه الجديد، المحدود بشخوصه، عددا وتزاحما، معاناة الإنسان، مع ذاته ومحيطه، ويستهلها بمدخل مكثف يستمر وبوتيرة تصاعدية حتى النهاية، “أبهره ذلك الضوء البعيد..رآه يتدلى من حفر السماء تمتصه كل الأمداد، يختلط وميضه بالظلال الناصلة ليتشتت في المنائر العتيقة التي انطفأت قبل قليل. رفع يده باحثا عن أصابعه ليدق أبواب اللغز ومنطلقات اللحظة..”
ليغوص بعدها في سرد حكاية راحيل تلك المرأة التي تقمصت مصير أمها من دون أن تعرفها إلا عبر لوحة فنية أرفقتها بها قبل أن تسلم الروح، وتودعها لدى المجهول قبل أن تلتقطها العجوز “عيشة” وتجد فيها مؤنسا إلى أن أعياها المرض وبدأ الموت يتسلل إليها ملحا، فتقوم بتسليمها إلى دار للأيتام، وهناك تتولى زينب، إحدى النزيلات السابقات، رعايتها وإغداق ذلك الحب الأمومي العظيم عليها، فتتولى تنشئتها على حب الموسيقى والفن، وتجعل منها أهم مؤلفة موسيقية وعازفة بيانو في البلاد، لتلتقي في إحدى الحفلات مع السياسي “اليساري” المعروف خالد الذي يساومها،بعد زواجهما، على أعز ماتملك، لوحة تختزن فيها كل ماضيها وحاضرها، رفضت بيعها من أجل القضية الفلسطينية وقوفا عند رغبة خالد الذي لم يشفع لها عنده ما قدمته من ذهب ومال ليصر على بيع لوحة رسمتها أمها وتعني لها بمنزلة الروح من الجسد، والمساومة عليها تعادل فصل الروح عن الجسد وهذا ما جعلها تختار الطلاق من خالد ومغادرة حياته وترك باريس المكان الذي جمعهما معا، والسفر إلى وجدة البلدة المغربية التي اختارت العيش فيها مصادفة وهي بلدة والدها عبد الله الفيلسوف المعروف الذي آثر الاعتزال والعمل في صناعة الخبز بعد أن فقد زوجته راشيل وابنته الرضيعة، محتفظا بلوحة توقفت عندها راحيل مطولا في أول زيارة لها للمخبز ابتغاء شراء الخبز، لتقرأ فيها ذات الأسرار التي تخفيها لوحة رافقتها سنين طويلة “.. أية مفاجأة أقوى من أن تجد لوحة فنية هاربة منها، كانت سببا في طلاقها من زوجها، أو أية غرابة أشد من أن تقابل فيلسوفا مندسا في جلد بائع الخبز..”
يتنقل المعزوز بين فصول روايته وحكايات شخوصه بمرونة وسلاسة دون أية مقدمات أو عناوين تمهيدية، أو عتبات استهلالية، تاركا للقارئ مهمة الربط وتجميع الأجزاء المبعثرة المتداخلة زمانيا ومكانيا، من حكاية جيهان الممثلة المسرحية اليسارية وعشيقة خالد الايجابية بعد راحيل، إلى وليد عازف البيانو الذي قطعت يده في الولايات المتحدة لمنعه من عزف ألحانه الحالمة، إلى زينب، وعيشة ورؤوف كشخصيات ثانوية ملحقة بالشخصيات المحورية، ويستحضر في نصه الكثير من الشخصيات التاريخية التي تركت أثرا راسخا لدى الأجيال الحالمة من المناضلة الفرنسية جان دارك إلى تشي غيفارا، والحلاج،وابن عربي، وجان بول سارتر وغيرهم من شخصيات أراد الكاتب اقتفاء أثرها عبر شخصيات ميتافيزيقية أمثال عبد الله وراشيل وخالد وراحيل الباحثين عن السمو والارتقاء بالتفكير البشري إلى ما وراء الواقع فهو يقول عن راشيل:”..تمنت لو انتظرت زمنا حتى تلد طفلها في الهيئة التي تحلم بها، أما وأنها اقتفت خطوات العرف وأنجبت كائنا مكررا وسط زغاريد الاستيهامات، فهذا شيء لن تغفره لنفسها أبدا..” جاء ذلك بعد أن أحرقت مرسمها محاولة الاحتراق، مستحضرا أثر فنانين عالميين انهوا حياتهم منتحرين أمثال الفنان السوري لؤي كيالي، والهولندي فان كوخ، والفرنسية كونستانس مابيه، والبريطاني روبرت فاغان والهندي داسوان وآخرين من عباقرة وصلوا إلى مرحلة “السوبرنوفا.” فقررا التبعثر والتلاشي. “..سألته هل جرب يوما أن يخرج من ذاته فرارا من الاختناق الذي يسرق أنفاسنا الأولى، فرارا من إجبار الحوارات التي نقيمها عنوة في داخلنا..” وهكذا يستمر المعزوز في نقاشه الوجودي الذي يجعله ينهي حياة بطلته راحيل دون مسببات جسدية ملقية برأسها على البيانو في حفلتها الأخيرة، رحيل ملحمي يحاكي حكايات الأساطير القديمة.
آصف إبراهيم