لماذا الكيان الصهيوني هو الخاسر الأكبر؟
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
حين تخرج القناة العاشرة في التلفزيون الصهيوني لتقول بأن “إسرائيل” هي الخاسر الأكبر في الحرب التي شُنّت على سورية خلال السنوات الماضية، فإن السؤال الذي لا بد وأن يطرح نفسه على الناس: لماذا كانت “إسرائيل” هي الخاسر الأكبر؟.
لعل أوّل ما يستدعيه مثل هذا السؤال هو السؤال القائل: وما الذي خسرته “إسرائيل” عملياً في هذه الحرب ليقال بالمحصّلة إنها كانت الخاسر الأكبر؟.
إذا نحن حصرنا تفكيرنا في الإجابة عن هذا السؤال بالخسائر البشرية والمادية المباشرة الناجمة عن الحرب، فإن الحقيقة التي لا بد وأن نصطدم بها هي أن خسائر الكيان الصهيوني من هذه الزاوية، إن لم تكن صفراً، فإنها أقرب إلى الصفر. فضحايا هذه الحرب وقتلاها لم يكونوا يهوداً صهاينة، ولم يكن بينهم من اليهود الصهاينة إلا أقل القليل. ثم إن التكاليف المادية والمالية التي صُرفت على هذه الحرب لم تكن من جيب الكيان الصهيوني وإنما من جيوب آخرين. فكيف يكون الأمر على هذا النحو ثم يقال بأن “إسرائيل” هي الخاسر الأكبر بينما خسائر “إسرائيل” المادية والبشرية لا تكاد تُذكر؟. لا بد إذن من وجود سبب أو مبرر قويّ يجعل “إسرائيل” تسلّم بأنها الخاسر الأكبر. فأين نجد هذا السبب؟.
بداية قد نجده في هدف الحرب.
لقد قلنا منذ البداية إن الحرب التي شُنّت على العرب تحت مسمّى “الربيع العربي” أو تحت مسمّى “الشرق الأوسط الجديد” إنما كانت تنفيذاً لمخطط شيطاني، أي صهيوني، غايته تمكين “إسرائيل” من التوسّع بين الفرات والنيل، وأن الطاغوت الأميركي إنما يلعب في هذه الحرب دور المايسترو الذي يحرّك أدواته في محاولة لتحقيق الهدف الصهيوني.
وإذا كان الطاغوت الأميركي، وهو يلعب هذا الدور، قد ادّعى بأن غاياته تتمثّل في تحقيق المصالح الأمريكية في المنطقة وفي ضمان أمن “إسرائيل”، فإن هذا الادّعاء لم يكن إلا لذرّ الرماد في العيون. ومن ذهبوا لمحاولة تفسير الألغاز على أساس الطمع الأميركي فيما تحتويه أرض سورية من النفط والغاز لا يستطيعون الآن أن يقولوا لنا لماذا لا تكون أمريكا التي فشلت في وضع يدها على ثرواتنا الباطنية هي الخاسر الأكبر، بينما يُعطى هذا الوصف لـ”إسرائيل”؟. فإذا قالوا إن “إسرائيل” كانت تطمع في أن تمكنها أمريكا من وضع يدها على هذه الثروات قلنا: ها أنتم عدتم من حيث لم تقصدوا إلى التسليم بأن الهدف كان تمكين “إسرائيل” من التوسع بين الفرات والنيل، إذ أنها من خلال هذا التوسع تضع يدها على الأرض وما فوقها وما تحتها، وتحقق كلّ أحلامها. فإذا هي فشلت في تحقيق هذه الغاية خسرت حلماً أو أحلاماً راودتها. وهنا نذكر بقول الرئيس الأميركي دونالد ترامب أو بالأحرى باعترافه بأن حماية “إسرائيل” وليس البترول هو سبب بقاء القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، وإن كان الحديث عن حماية “إسرائيل” كهدف للوجود وللدور الأميركي في المنطقة يثير التساؤل حول مدى التوافق بين كيان يحتاج إلى من يحميه ويسعى في الوقت نفسه إلى التوسع على حساب جميع المحيطين به في المنطقة، وإن كان فهم هذه المعادلة أو تفسيرها ليس أمراً صعباً طالما أن نقطة البداية في تصنيع الكيان الصهيوني تمثّلت في وعد بلفور، وطالما أن اعتماد الصهيونية على الاستعمار والامبريالية يشكّل ظاهرة دائمة ملازمة للحركة الصهيونية العالمية. فسواء كان الحلم الصهيوني في التوسع مبنياً على الاعتماد على القوى الذاتية للصهاينة أو على قوىً أخرى تخدم الهدف الصهيوني، وأياً كانت طبيعة هذه القوى، فإن مسألة وجود الحلم الصهيوني ومسألة الإخفاق في تحقيقه تبقى مسألة قائمة، ولا يهمّ بعد ذلك من تكون الجهة أو الجهات التي حاولت وأخفقت.
ولكن ألا يحق لنا في هذه الحالة أيضاً أن نقول بأن من يخسر الحلم لا يخسر شيئاً من كيسه، وإنما يخسر شيئاً حلم به خاصة إذا كان من دفعوا تكاليف محاولة تحقيق هذا الحلم هم آخرون غيره؟. فلو أنه دفع تكاليف هذا الحلم من جيبه وخاب ظنه لقلنا إنه خسر المال والرجال دون أن يحقّق الحلم الذي كان في خاطره قد جال، أما وأنه لم يدفع شيئاً يذكر، فما الذي جعله يصنّف نفسه ليس فقط في خانة من يخسر ولكن في خانة الخاسر الأكبر؟!.
للإجابة عن هذا السؤال دعونا نفكر في هذا المثال: شخصٌ أرادَ أن يقزّم قوّة شخص ما بحيث يتمكن من الإمساك به من تلابيبه واستعباده، لكن هذا الشخص المستهدف يخرج من المحاولة عملاقاً ويتحوّل من حاول تقزيمه بالمقابل إلى قزم. ألا يكون الشخص الذي قام بهذه المحاولة وتحوّل إلى قزم بالمحصلة هو الخاسر الأكبر؟!.
هذا بالضبط ما حصل مع الصهاينة.
لقد مكروا مكرهم، وجنّدوا مباشرة أو من خلال الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين وآخرين ما سُمّي بـ”ائتلاف الثمانين”، وما سُمّي بـ”تحالف الستين”، وسخّروا مئات الآلاف من الإرهابيين، وعبّأوا في خدمة مخططهم أيضاً “جماعة الإخوان المسلمين”، وظنوا أنهم بالاعتماد على هذه القوى، وعلى حملات التضليل الإعلامي، أنهم سيعيدون رسم خريطة المنطقة تحت عنوان “الشرق الأوسط الجديد”.
والواقع أن خطتهم –وكما كشف عنها النقاب ثعلب السياسة الأمريكية الصهيوني هنري كيسنجر منذ البداية– كانت تتضمن أكثر من مرحلة. ففي المرحلة الأولى، والتي أسند الدور الأساسي فيها لعصابات الإرهاب الوهابي التكفيرية ولجماعة “الإخوان المسلمين”، كانوا يستهدفون تقويض قوة الجيوش النظامية العربية من جهة، وتقويض الأنظمة الشرعية القائمة من جهة ثانية، وإحلال إمارات الإرهابيين المتصارعة محلها. وكان يفترض أن تتوّج هذه المرحلة بعد التمكن من تفكيك سورية باستهداف إيران، وأن يأخذ الإرهابيون المتمردون في المنطقة بتوجيه الضربات إلى دول أخرى خارج المنطقة، بما في ذلك أوروبا الغربية، بغية إيجاد رأي عام دولي يطالب بالقضاء على الإرهاب بأي ثمن. وعندئذٍ، يأتي دور الكيان الصهيوني ليتدخل -كما قال كيسنجر- بكل ما لديه من قوة ومن أسلحة، وهنا نفترض بأن هذا التعبير الكيسنجري يعني استخدام أسلحة الدمار الشامل باعتبارها بعض ما لديه من أسلحة، وأن أكاذيبهم المتواصلة حول استخدام أسلحة كيميائية من قبل الجيش السوري وتزويد الإرهابيين من قبل الغرب بمثل هذه الأسلحة إنما كانت الغاية منها تهيئة الرأي العام العالمي للقبول بما هو آتٍ في مرحلة الانقضاض الصهيوني على المنطقة بهدف بسط سيطرته على القسم الأكبر من منطقة الشرق الأوسط، وتحقيق حلم “إسرائيل” في التوسع بين الفرات والنيل، وذلك تحت ذريعة تخليص العالم من الإرهاب والإرهابيين، دون أن يعترض سبيله أحد من العالمين، بل ووسط تهليل وتصفيق العالم الغارق في التضليل، مدّعياً أن الكيان الصهيوني أنجز بفعلته هذه ما فشل في إنجازه الآخرون بصدد القضاء على الإرهاب، وقام بدور المخلّص للعالم من الإرهاب بعد أن فشلت كل التحالفات وكل القوى الأخرى في القضاء على هذا الإرهاب.
الصمود السوري
لقد فشلت المرحلة الأولى من المخطّط الشيطاني في الوصول إلى غايتها بفضل الصمود السوري، ومساندة القوى الحليفة لسورية في محاربة الإرهاب، وخاصة محور المقاومة وروسيا. وهذا الفشل لا يعني نجاة سورية وحدها مما كان مخططاً. فكما أن المؤامرة الشيطانية معبّراً عنها بما سُمّي زوراً بـ”الربيع العربي” قد بدأت باستهداف مصر وتونس توطئة لاستهداف ليبيا، ومن ثم استهداف سورية، فإن التمكّن من سورية كان يعني الإجهاز على كامل المنطقة العربية وجوارها الإسلامي. وعلينا أن نتذكر في هذا السياق أن الاستهداف لم يبدأ مع نهاية العام 2010 وبداية العام 2011 بل بدأ قبل ذلك بكثير باستهداف أقطار عربية أخرى مثل العراق والجزائر والسودان ولبنان، كما أن استهداف اليمن كان جزءاً من الخطة الشاملة المرسومة للمنطقة. ثم إن استهداف سورية لم يقتصر عملياً على الجغرافيا السورية فقط، وإنما شمل العراق ولبنان، ولم يكن شرق الأردن بمنأى عن مخاطر امتداد الإرهاب إليه واستهدافه. فلو تمكن الإرهابيون من سورية والعراق لاندفعوا لتشديد الهجمة الإرهابية على مصر ليس فقط من سيناء ولكن أيضاً من الجوار الليبي والسوداني. وقد رأينا بالفعل كيف أن الإرهابيين حاولوا بسط سيطرتهم على لبنان، مثلما راحوا يمهدون للسيطرة على شرقي الأردن، ورأينا كيف أن السوريين واللبنانيين خاضوا معاً معركة تخليص لبنان من العصابات الإرهابية التي كانت قد انتشرت في جبال القلمون خاصة بحيث أعطيت لمهمة التخلّص من هذه العصابات أولاً أفضلية في الحرب على الإرهاب.
لقد خرج رئيس الأركان السابق للجيش الصهيوني مؤخراً ليقول بأن الصهاينة نفذوا خلال السنوات الأخيرة –أي ضمن ما نعتبرها المرحلة الأولى من مراحل المخطط الشيطاني– ضربات ضد آلاف الأهداف في سورية ولبنان دون إعلان مسؤوليتهم عن ذلك. ولا نظن أن أحداً يمكن أن يصدّق بأنهم فعلوا هذا دون أن يعلم الآخرون بحجم ما فعلوا إلا في حالة واحدة، وهي أن تكون العصابات الإرهابية أو عصابات المرتزقة التي ادّعت أنها معارضة مسلحة قد نفذت لحساب العدو الصهيوني عمليات معيّنة ضد أهداف جرى التخطيط لاستهدافها من قبل العدو الصهيوني، واختلطت بذلك المعطيات فما عاد من السهل التمييز بين عمليات نفذها الإرهابيون والمرتزقة لحساب الصهاينة أو عمليات نفذها الصهاينة بأنفسهم أو عمليات تعاون فيها الطرفان معاً دون أن يعلن العدو عن دوره في العدوان مستغلاً الواقع القائل بأنه من الصعب التمييز بين عدو وعدو في بعض الحالات أو المواقع. وهذا أمر توقعناه منذ بداية الأحداث حين قلنا بأن هناك مؤشرات عديدة على أن بعض هؤلاء الإرهابيين والمرتزقة ينفذون عمليات بتوجيه مباشر من غرفة عمليات أو غرف عمليات “إسرائيلية”. وهذا ما يفسّر سلسلة الاغتيالات التي استهدفت ضباطاً محددين أو تلك الاعتداءات التي استهدفت مواقع الدفاع الجوي. فمثل تلك العمليات كانت بمثابة تمهيد سافر مبكر للمرحلة الأخيرة من مراحل المخطط الشيطاني في تمكين “إسرائيل” من التوسع بين الفرات والنيل. فالإرهابيون والمرتزقة والعملاء كان مطلوباً منهم منذ البداية تمهيد الدروب أمام العدو لتحقيق غايته هذه سواء أدركوا ذلك أو لم يدركوه.
جوهر المخطط
إن اعتراف العدو بوجود دور مباشر أو غير مباشر له في تشغيل عصابات الإرهابيين والمرتزقة خلال المرحلة الأولى من مراحل مخطّطه الشيطاني لا يغيّر شيئاً من ملامح الصراع وأدواته. فكل من أسهموا في استهداف المنطقة العربية خلال تلك المرحلة من مراحل الصراع هم أدوات عميلة عبّأها العدو الصهيوني وشركاؤه من أعراب وأغراب. ومهما حاول هؤلاء أن يعطوا تبريرات لسلوكهم فإنهم لن يستطيعوا بحال من الأحوال نفي جوهر المخطّط الشيطاني الصهيوني ودورهم في تنفيذه. فأن يزعم بعضهم بأن دافعه كان الوصول إلى السلطة، أو أن يظهر سواه وكأنّ دافعه كان التوسّع الجغرافي على حساب العرب، أو تفادي أخطار يزعم أنها تهدّده، وما إلى ذلك من تبريرات، لن يغيّر شيئاً من حقيقة الصورة، وهي أن كل المتورطين إنما خدموا المخطّط الشيطاني الصهيوني ولعبوا دور مخالب القطط في خدمة اليهود الصهاينة، وأن هزيمتهم في الميدان هي هزيمة للمشروع الصهيوني الذي انخرطوا في تنفيذه بدوافع شيطانية. ويكفي أن يكونوا قد أدوا أدوارهم كما رُسمت لهم بوجود التحدّي الصهيوني ومخاطره دون أن يحسبوا حساباً لما يعنيه هذا التحدّي للدلالة على انحرافهم الذي وصل حدّ الخيانة العظمى. وحين خرج العدو ليقول بأنه هو “الخاسر الأكبر” نتيجة فشل المرحلة الأولى من المخطّط الشيطاني، فإن هذا الاعتراف الصهيوني يعني إقراره بأنّ كل من أسهموا في خدمته خلال تلك المرحلة بأي شكل من الأشكال إنما كانوا أدوات عميلة استخدمها العدو لحساب مخططه. وطبيعي في هذه الحالة أن يعتبر “المشغّل” هو الخاسر الأكبر في حالة فشل من يشغلهم في تحقيق ما كان يتوخّاه من وراء تشغيلهم. فالخاسر الأكبر في مثل هذه الحالة هو اللاعب الأكبر. واللاعب الأكبر سيعتبر نفسه خاسراً أكبر في حالات منها أن يكون هو الممسك أصلاً بأوراق اللعب التي خسرت، والمتحكم بهذه الأوراق، وبالأدوار المطلوبة منها. ففي مثل هذه الحالة سيعتبر فشل أدواته خسارة مباشرة له، وأما لو كان رهانه على هذه الأدوات مجرد حسابات على هامش الصراع الحاصل لاعتبر أن خسارتها هي مجرد فرصة ضاعت، وليست خسارة كبرى له.
إن الفرصة التي ضاعت، أو الفشل الذي حصل، أدّى بشكل منطقي إلى فرملة المخطّط الشيطاني في الانتقال من المرحلة الأولى، مرحلة نشر الفوضى والإرهاب في المنطقة، إلى المرحلة الثانية المتمثلة بقيام الكيان الصهيوني بالسيطرة على معظم أراضي المنطقة تحت ذريعة القضاء على الإرهاب. أي أن فشل المرحلة الأولى من المخطط الشيطاني يعني أمرين متلازمين هما: فقدان الأدوات الإرهابية والمرتزقة المستثمرة في اللعب، وفقدان الذريعة، أي الدور الذي تلعبه هذه الأداة كذريعة في تبرير الغزو الصهيوني. وفقدان دور الإرهابيين كأداة وذريعة هو بالنسبة للعدو الصهيوني خسارة كبرى.
لماذا هو خسارة كبرى؟.
دعونا نسلّم بالحقيقة القائلة بأن الكيان الصهيوني ومن يقفون وراء هذا الكيان من امبرياليين واستعماريين وآخرين، عملوا طويلاً من أجل تهيئة الأدوات التنفيذية لمخطّطهم الشيطاني، وأنهم فعلوا ذلك لأنهم لا يملكون البديل الذي يجعلهم في غنى عن اعتماد أمثال هؤلاء في تنفيذ مخطّطهم، أي أن فكرة الاعتماد على القوات الصهيونية مباشرة أو على القوات الامبريالية المساندة للصهاينة مباشرة دون الاعتماد على تلك الأدوات الإرهابية التكفيرية وما في حكمها من أدوات إقليمية لم تكن واردة. والأمر هنا مرتبط ليس فقط بحساب القدرات العسكرية، ولكن أيضاً بالتوازن العسكري على الصعيد العالمي وحدود الاشتباك وأبعاده، أي بجملة من العناصر المتداخلة. ويكفي أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: مَن كان يتوقع قبل حدوث ما حدث أن تعتمد “إسرائيل” في تنفيذ المخطّط الشيطاني على حركات تدّعي أنها “إسلامية” و”جهادية”؟. لقد كان الناس يتساءلون: لماذا يذهب هؤلاء لممارسة ما يدّعون أنه “جهاد” في مواقع كثيرة متباعدة ولكنهم لا يذهبون للجهاد في فلسطين، حيث إن احتلالها كجزء من دار الإسلام يوجب الجهاد من أجلها على جميع المسلمين؟. فغياب هؤلاء عن واجب الجهاد في فلسطين كان هو المشكلة المثارة وموضع التساؤل، وأما التصور بأن يقوم هؤلاء بالذات بخدمة المخطّط الشيطاني الصهيوني، وأن يسخّروا أنفسهم للعب دور الأدوات في خدمة هذا المخطّط، فقد بقي احتمال وقوعه أمراً فوق أو خارج كل تصوّر منطقي. ولنا أن نتخيّل حجم الجهد المبذول من قبل الصهاينة أو المخابرات المركزية الأمريكية لتصنيع أمثال هذه العصابات وتكليفها بالدور الذي لعبته، فالأمر هنا أكثر من عملية غسل مخ مسبق جرت ممارسته، ما لم نفترض أيضاً وجود مغريات سياسية ومادية أمكن بواسطتها تطويع تلك القوى لتمارس الدور الذي مارسته. وعلى أية حال، فإن الرهان الصهيوني على هذه العصابات كان رهاناً كبيراً للغاية بل مطلقاً بدلالة حجم القوات التي جرى تجنيدها في إطار هذه العصابات وزجّها في سورية عدا عن الساحات الأخرى. وحين فشلت هذه الأدوات وخسرت حربها فإن فشلها هذا يعني أن أصحاب المخطّط الشيطاني فقدوا القوة الأساسية التي أعدّوها لتنفيذ المخطّط، إذ أن المخطّط قام منذ الأساس على اعتبار أن هذه العصابات الإرهابية هي القوة الأساسية التي يعتمد عليها تنفيذ المخطّط، وأن إمكانية الزج بقوات أخرى أمريكية أو أوروبية أو صهيونية في المرحلة الأولى هو إجراء ثانوي مساند إلى أن يتمّ إنجاز هدف المرحلة الأولى في تمكين العصابات الإرهابية، قبل أن تأتي المرحلة الثانية باللعبة المعاكسة في سلوك هو أقرب إلى المسرح التراجيدي أو حتى الكوميدي منه إلى السلوك المنطقي الذي يستطيع الناس رصد أبعاده بوضوح!.
تعويض الفاقد
فإذا كانت الخطة الشيطانية في مرحلتها الأولى قد فشلت فإن هذا يعني أن العناصر التي هيّأتها الأطراف المعادية خلال عشرات السنين قد فشلت وفقد الكثير منهم حياته خلال المحاولة، وأن تأمين بديل للفاقد ليس أمراً سهلاً بحيث يمكن التعويض عنه بتجنيد عناصر جديدة رغم أن المحاولات في هذا الاتجاه لم تتوقف. ولعلّ هذا هو ما يفسّر المحاولة الرامية إلى إعاقة المرحلة الأخيرة من مراحل الحرب على الإرهاب سواء في شرقي الفرات أو التنف أو إدلب، أو لعلّ هذا ما يفسّر توجه الإدارة الأمريكية إلى الاتفاق مع طالبان على نحو يضغط على العناصر الإرهابية لترك أفغانستان، وربما أيضاً التوجّه إلى المنطقة العربية لتعويض الفاقد، وإن كانت هذه المحاولات تبدو أكثر من عابثة ولا طائل وراءها. وهذا ما يجعل الكيان الصهيوني الذي يدرك تماماً بأن استعادة اللعبة التي دبرها لخدمة المخطّط والتعويض عن خسائر الأطراف التي جنّدها لخدمته لم تعد أمراً ممكناً. وهذا في حدّ ذاته يكفي لتبرير قوله بأنه كان الخاسر الأكبر. فالقوة الغريبة والعجيبة “العبيطة والمستعبطة” التي نجح في تعبئتها لحساب المخطّط بمساعدة أطراف أخرى من الأعراب والأغراب لم يعد من الممكن استعادتها، وحتى لو حاول ذلك فإنه سيحتاج إلى زمن طويل.
على أن الجانب الآخر الأهم والذي يفسّر كون الكيان الصهيوني هو الخاسر الأكبر يتمثّل في طبيعة الاصطفاف الدولي الذي ترتب على المحاولة. وهنا لا بد وأن نلاحظ الأهمية الخاصة لدور روسيا والصين في اللجوء إلى الفيتو مراراً وتكراراً بمواجهة المحاولات الأمريكية لتشريع العبث من خلال مجلس الأمن الدولي، وكذلك التدخل الروسي المباشر في الحرب على الإرهاب والإرهابيين في سورية وفي دعم الجيش العربي السوري في أدائه لدوره بمواجهة الإرهاب، وكذلك الدور الذي قام به أطراف محور المقاومة، وخاصة إيران وحزب الله، إلى جانب الجيش السوري في مواجهة الإرهابيين. فهذا كله يعني ليس فقط إفشال المخطّط الشيطاني في تحقيق غايته، ولكن أيضاً خلق واقع جديد يضع الهدف الصهيوني في التوسّع على حساب الوطن العربي في نطاق الاستحالة. بل إن الواقع الجديد يعني أن العدو الصهيوني بات يتملكه الخوف على وجوده العدواني بعد أن صار هذا الوجود عاجزاً عن مواجهة القوى المتصاعدة لمحور المقاومة وقوى محاربة الإرهاب.
إن هذا ما يفسّر ببساطة اعتراف العدو بأنه كان “الخاسر الأكبر”، ذلك أن قدرته على العبث باتت الآن أقل بكثير مما كانت عليه قبل محاولته تنفيذ مخطّطه الشيطاني، فهو لم يخسر الحلم فقط والأدوات التي أعدّها لتحقيقه ولكنه بات يشعر بأن وجوده المصطنع صار محاصراً. ولا نظن أن مظاهرات “التطبيع” الجارية بينه وبين من شاركوه مخطّطه الشيطاني من الأعراب يمكن أن تغطي على حقيقة الخسارة الكبرى التي مُني بها والتي شاركوه في صنعها وصاروا يعتبرون أيضاً شركاء له في الخسارة.