مجزرة نيوزيلندا في سياقها العام
د. مازن المغربي
لا يمكن بأي شكل فصل الجريمة المروعة التي شهدتها نيوزيلندا في الخامس عشر من آذار عن مسار تطور عام فرضته مصالح الطغمة المالية المتحكمة في شؤون عالمنا . الحادثة التي يريد البعض تصويرها على أنها عمل فردي نفذه شخص متعصب رفض ربط اسمه بأي جماعة أو منظمة، هي في واقع الأمر انعكاس لأزمة عامة تعيشها شعوب البلدان ذات الثقافة الأوروبية الغربية بغض النظر عن موقعها الجغرافي.
ومع تأثير الأزمة الاقتصادية انتعشت حركات اليمين المتطرف التي تحولت في بعض بلدان الغرب إلى أحزاب شعبوية تمتلك رصيدا شعبيا لا يستهان به ، ووصلت في بلدان أخرى إلى الحكم كما هو الحال في المجر وفي البرازيل. ففي المجر هناك حكومة فاشية بامتياز يقودها فيكتور أوربان الذي وصف مشروعه السياسي في تموز 2014 بما يلي : “الأمة المجرية ليست تراكما بسيطا من الأشخاص بل جماعة يجب أن تنظم وتدعم وتبني وضمن هذا السياق فإن الدولة الجديدة التي نود بناءها في المجر هي ليست بالليبرالية، أي أنه يرى أن نجاح الأمة مرتبط بوجود نظام استبدادي .
في الواقع تمكن حزب تحالف الديمقراطيين الشباب الذي ينتمي إليه أوربان من تعزيز وجوده في المجتمع المجري على حساب الحزب الاشتراكي الذي ظل في الحكم حتى عام 2010 عندما تمكن الحزب الفاشي من حصد ثلثي أصوات الناخبين وتمكن من الحصول على أغلبية خولته تعديل الدستور. وحرص النظام الجديد على إعادة الاعتبار لمرحلة حكم المارشال الفاشي هورثي الذي حكم البلاد في العقد الثالث من القرن العشرين.
لا يقتصر انبعاث الفاشية على بلدان معينة، ففي الشهر الماضي أوقفت سلطات الولايات المتحدة العقيد كريستوفر باول هاسون من قوات خفر السواحل الذي خطط لهجمات إرهابية تستهدف مجموعات اشتراكية وسياسيين من الحزب الديمقراطي.
وفي البرازيل يقوم الرئيس بولزونارو بتمهيد الطريق لفرض حكم فاشي يتوافق مع السياسات التي دافع عنها طيلة حياته وضمنها في برنامجه الانتخابي، وهي في جوهرها معادية للأجانب وللمرأة، وعنصرية، حتى أنه يدافع علناً عن ممارسات الأنظمة الفاشية بما في ذلك التعذيب والاغتيالات.
وفي ألمانيا عاد النازيون الجدد بقوة إلى المشهد السياسي وهو أمر عرضه بشيء من التفصيل كتاب ( لماذا عادوا من جديد؟) للكاتب كريستوف فاندريار الذي تناول صعود حزب البديل الألماني بعد انقضاء سبعين عاماً على هزيمة النظام النازي. إن هذا التحول الخطير في المسار السياسي في ألمانيا لم يكن وارداً لولا التبدلات العميقة التي طرأت على الخطاب السياسي، والميل المتصاعد لعسكرة السياسة الخارجية وتأجيج الروح التعصبية بحجة وجود خطر على الهوية الثقافية الألمانية، وضمن هذا السياق شهدت مدينة ريغا عاصمة جمهورية لاتفيا مسيرة شارك فيها المحاربون القدماء الذين قاتلوا ضمن قوات العاصفة النازية، وكانت المسيرة تحت رعاية أجهزة الإعلام الرسمية.
لمحة تاريخية
ثمة انطباع شائع بأن كل من نيوزيلندا وأستراليا هما بلدان زراعيان مسالمان بعيدان عن صراعات العالم لكن الواقع أن تلك الجزيرتين العملاقتين كانتا مسرحاً لعمليات إبادة جماعية ضد السكان الأصليين وتاريخهما لا يختلف عن تاريخ الولايات المتحدة وبلدان وسط وجنوب القارة الأمريكية. كان الهولنديون هم أول الواصلين إلى نيوزيلندا وتلاهم الفرنسيون والإنكليز، وقام المستوطنون بالاستيلاء على أفضل الأراضي وفرضوا على شعب الماوريين سلسلة من الممارسات العنيفة وتحولت نيوزيلندا إلى جزء من الامبراطورية البريطانية وشاركت في مختلف حروبها عبر تشكيل وحدات استرالية- نيوزيلندية مشتركة بدءاً من الحرب في جنوب أفريقيا عام 1899 . وكانت ضمن التحالف الغربي في قمع ثورة الصين (1900-1901) كما شاركت في حروب أرمينيا وأذربيجان (1918-1920) التي انتهت بانتصار الاتحاد السوفيتي، وخاضت القوات النيوزيلندية غمار حرب المالاوي (1948-1960) وشاركت في الحربين العالميتين، وقاتلت إلى جانب الولايات المتحدة في الحرب الكورية (1950-1953)، وبعدها في الحرب الفيتنامية (1964-1973) وفي الصراع بين ماليزيا واندونيسيا (1962-1966) التي انتهت بالإطاحة بالرئيس سوكارنو وبمجزرة فظيعة ضد الحزب الشيوعي الاندونيسي.
وكانت نيوزيلندا ضمن التحالف الدولي في حرب الخليج الأولى (1990-1991) ، وما تزال القوات النيوزيلندية تشارك في الحرب الأفغانية منذ 2001 وانضمت إلى التحالف الدولي ضد “داعش” عام 2014 الذي استخدم غطاء لشن الحرب على سورية.
منفذ العملية الإجرامية هو من أصل استرالي، نفذ جريمته بدم بارد ونقل الصور المروعة عبر العالم عن طريق كاميرا مثبتة بالرأس. أراد منذ اللحظة الأولى لتوقيفه التركيز على الطابع الفردي لفعلته، ونشر قبل العملية مذكرة طويلة شرح فيها دوافعه. لكن عند إخضاع العملية وملابساتها للتمحيص نجدها مليئة بالإشارات بدءاً من اختيار مدينة كريست شرش، ومروراً باستهداف الجامع يوم صلاة الجمعة. وثمة أسئلة تطرح نفسها، كيف يقوم سفاح بفتح النار على المصلين؟، ثم يعود إلى سيارته لجلب بندقية ثانية، ليستأنف عملية القتل ثم ينتقل إلى مسجد آخر ويباشر إطلاق النار. لا بد أن المسجد الثاني بعيد عن الأول وإلا لكان رواده سمعوا أصوات العيارات النارية التي تمثل ظاهرة استثنائية في بلد مثل نيوزيلندا لا يعرف ظاهرة إطلاق الرصاص العشوائي بمناسبة ومن غير مناسبة. كانت الهجمات فعلا إجرامياً مرعباً يطفح بالهمجية و يستند إلى عقيدة يمينية متطرفة.
لم يكن الحدث محصورا في نيوزيلندا، بل هو نتيجة لصعود الفاشية على مستوى العالم في ظل رعاية أعلى مستويات أجهزة الدولة .إن الطغمة المالية المتحكمة في شؤون عالمنا مرعوبة من عودة فكرة النضال الاجتماعي حيث عبر الشباب والمضطهدين في مختلف أنحاء العالم عن رفضهم لنظام سياسي مصر على تخريب البيئة لمصلحة المتربعين على قمة الهرم الاجتماعي، وعلى الانقضاض على كل المكتسبات الاجتماعية التي تحققت على مدى سنوات طويلة. لم يعد هناك من حاجة للتبجح بالديمقراطية وبحقوق الإنسان.
تمت العودة إلى أفكار الآباء المؤسسين للولايات المتحدة القائلة بأن دور الدستور هو حماية ملكية الأقلية الثرية من تهديدات الأغلبية الفقيرة. وبالعودة إلى البيان الذي نشره منفذ العملية وغطى أكثر من سبعين صفحة نجد أنه بدأ التخطيط لعمليته منذ سنتين.
حملت الوثيقة عنوان ( الإحلال العظيم) وأشارت الأفكار الواردة فيه إلى أن الرجل معتز بفاشيته وهو أشاد بأندرس بيهرينغ بريفيك الذي قتل مجموعة من الفتيان والأطفال في النرويج عام 2011 بدوافع معادية للأجانب وادعى أنه كان على اتصال مع ذلك المجرم وأنه حصل على بركته لتنفيذ عملية نيوزيلندا. مدح المجرم الرئيس دونالد ترامب بوصفه مجدد هوية الرجل الأبيض واعتبر المهاجرين غزاة وهي الصفة التي تنطبق تماماً عليه وعلى أجداده الذين غزوا العالم الجديد وأبادوا سكانه. زين القاتل سلاحه بأسماء أشخاص كان لهم مواقف ضد الأجانب مثل شارل مارتل القائد الذي هزم جيوش المسلمين في معركة بلاط الشهداء، وألكسندر بيسونت الذي اغتال ستة مصلين في هجوم على مسجد في كندا عام 2017 ، وأنطون بيترسون الذي قتل طفلين مهاجرين في السويد، وماركو أنطونيو براغادينو قائد جيوش مملكة البندقية الذي أمر بإعدام الأسرى من قوات الجيش العثماني، واسكندر بك القائد الألباني الذي تمرد على الدولة العثمانية.
ونرى على غلاف الكتيب الالكتروني الذي نشره منفذ الهجوم عجلة شمسية مقسمة إلى 12 فرعا وهذا رسم اكتسب شهرة بوصفه الشمس السوداء المرتبطة بالفكر النازي الجديد.
انصب غضب الرجل على معدلات الولادة المرتفعة بين صفوف المهاجرين واعتبرأنها خطر حقيقي يهدد مصير حضارة الرجل الأبيض الذي بلغت معدلات الولادة لديه نسبة تقارب الصفر وبالتالي حكم على نفسه بالفناء. وقدم القاتل نفسه بوصفه مولود في أستراليا في عائلة متواضعة تعود لأصول اسكتلندية وأيرلندية و انكليزية. كانت حصيلته الدراسية متواضعة ولم يرتد أي جامعة وقام بتثقيف نفسه بالاعتماد على ما هو متوفر على شبكة الانترنت. وقال: إنه يتحرك بدافع الانتقام لحضارة الأوروبيين التي تعرضت على مدى قرون لعملية غزو. وهو معجب بتيارات اليمين الجديد المنبعث في أوروبا، وشدد على عدم انتمائه إلى أي مجموعة سياسية واعترف بوجود علاقات تربطه مع مجموعات ترفع شعارات قومية تعصبية، وقال: إن مجموعة فرسان المعبد الأوروبية عرفت بنواياه وباركت خطوته. وأضاف إنه لا يكره المسلمين طالما ظلوا في بلادهم ووصف نفسه بأنه فاشي مناصر لحماية البيئة وعبر عن دعمه لدونالد ترامب الذي يجسد في نظره انبعاث الرجل الأبيض.
كان الحدث صادماً لكن يجب التعامل معه بوصفه تعبير عن أزمة حقيقية مرتبطة بالواقع الاقتصادي الذي قادت إليه السياسات النيوليبرالية وأدت إلى تهميش الأحزاب السياسية التقليدية دون أن تفسح المجال لبناء أحزاب سياسية بديلة وبالتالي صار الميدان خالياً أمام أصحاب الفكر العنصري الذين يعتمدون على تنظيماتهم الحديدية وعلى اتصالاتهم الواسعة في ظل تغاضي جهاز الدولة عنهم ، ويجب عدم إغفال دور الشبكة العنكبوتية التي تمثل المعين الثقافي الأول لآلاف الأشخاص الذين تجذبهم المواقع التي تحرض على العنف والكراهية، وتقدم ملفات إرشادية للتخطيط، وتقدم معلومات عن أماكن بيع الأسلحة النارية والذخائر.
نحن نعيش في عالم تحول إلى قرية كبيرة وأي حدث يقع يمكن أن يولد تداعيات يصعب توقعها و لا يمكن محاربة التيارات الفاشية إلا من خلال حل الأزمات الاقتصادية والترويج لثقافات السلم وقبول الآخر.