بوريس باسترناك..!
حسن حميد
أحياناً، وما أكثر هذه الأحيان التي يتجلّى فيها التاريخ مثل المرآة كيما تنير الواقع فتبديه بالتفاصيل الكاملة، وترسمه بإحاطة وافية كيما يرى المرء نفسه وما الذي يعمل عليه، ومن أجل ماذا؟! ولهذا قيل مواقفة التاريخ لا تعني سوى مواقفة الحاضر من أجل إضافة بعض المضايفات فحسب!. وقد رأيت هذا الأمر حقيقة وأنا أقرأ سيرة حياة الكاتب الروسي بوريس باسترناك (1890-1960) وما أحاط بها من بلبال حياتي دمّرها إلا قليلاً من جهة، وسيرة مدونته الأدبية التي أحاط بها بلبال آخر دمّرها أكثر مما نوّعها من جهة ثانية.
ولد بوريس باسترناك لأبوين شهيرين، الأب فنان يرسم اللوحات، ويدرس علوم الفن لطلبته في معهد روسي شهير، وأمه فنانة معروفة تعزف على البيانو، وتدرِّس الصبية أصحاب المواهب الموسيقية الرفيعة، وحال الأسرة الاجتماعية والاقتصادية ميسورة. درس الموسيقا في البداية، ثم نفر منها، مع أنه كان عازفاً مهماً على آلة البيانو، ثم أحبّ الفلسفة، فسافر إلى ألمانيا ودرس الفلسفة في جامعة ماربورغ، ولكنه انصرف عنها أيضاً بعدما حاز شهادتها، والتصق بالثقافة والأدب بعدما وعى موهبته الشعرية. توفيت والدته عام (1903) فأحسَّ بالدنيا تضيق عليه، وبعد عشر سنوات توفي والده، فأمطر قلبه حزناً، ولم يكن له من سند سوى أخيه الأكبر منه، وهو طبيب. أوقف حياته من أجل الشعر بوصفه أداة التعبير عما يجول في نفسه، وعما يجول في مجتمعه. تأثر كثيراً بالأفكار الاشتراكية وتبناها، وعدَّ الثورة البلشفية (1917) تحولاً نوعياً في الحياة الروسية، وأنها ولادة لعالم جديد يمحو الظلم، والقسوة، وتفاوت الطبقات، ويعيد للعدالة والحرية هيبتهما!.
عُرف في روسيا من خلال مجموعته الشعرية (أختي.. أيتها الحياة) التي وضعته بين شعراء روسيا الكبار، تأثره بالشاعر ميخائيل ليرمنتوف (1814-1841) كان واضحاً.
لم يغادر روسيا حين قامت أحداث الثورة البلشفية عام (1917)، وراح يغيّر من أسلوبه الشعري ليتناسب مع ما طرحته الواقعية الاشتراكية، وحين طالت الوشايات والاعتقالات الأدباء والفنانين، ترك الشعر، والتفت إلى الترجمة، فترجم بعض أعمال شكسبير، وغوته، وريلكه، وشيلر، وفيرلين، كما ترجم بعض قصائد شعراء جورجيا، وهذا ما امتدحه (ستالين) له.
حين عرضت قائمة الأدباء والمثقفين الذين وصفوا بمعارضة النظام الاشتراكي، وهي قائمة محتشدة بالأسماء، أكثر من 44,000 ألف معارض، على (ستالين 1878-1953) كان اسم بوريس باسترناك من بينها، فحذفه ستالين تقديراً له على صنيعه حين ترجم أشعار شعراء جورجيا.
العمل الأهم لـ بوريس باسترناك، كان عملاً روائياً هو /الدكتور جيفاغو/ الذي يؤرخ لحياة (40) سنة من الماضي الروسي، وما فيه من غصص وآلام وأسئلة وأمان وأحلام، الأمر الذي جعل الناشرين الروس يمتنعون عن طباعتها، لذلك هُرّبت الرواية إلى إيطاليا وطُبعت هناك سنة 1957، فامتدحها مثقفو الغرب، وذمّها نقاد الاتحاد السوفييتي على الرغم من أنهم من يعرفوا ما فيها، ومنهم من قال: أنا لم أقرأ رواية باسترناك.. ولكنني ألعنه! وزاد الأمر ضغطاً على باسترناك حين مُنحت الرواية جائزة نوبل سنة 1958، فرحّب بها أول الأمر ثم رفضها تحت الضغط، وطرد من اتحاد الكتّـاب السوفييت، واتهم بأنه الكاتب المتمرد، وعدو الشعب. والحق في الرواية اتهامات، ووقائع، ووصف للجوع، والمعاناة، وأحوال السجناء والمعتقلين، لم ترضَ عنها السلطات السوفييتية آنذاك، ولم تعاد الاعتبارية للرواية إلا سنة 1987، أيام البريسترويكا.
كتب باسترناك روايات وقصصاً قبل /الدكتور جيفاغو/ وأشعاراً كثيرة لكنها لم تلاقِ الشهرة التي تليق بها، مع أنه قال: جئت إلى هذا العالم لكي أكتب الشعر.
اليوم تشكل رواية /الدكتور جيفاغو/ جزءاً مهماً من تاريخ الحياة الروسية، كما يشكل /باسترناك/ بحضوره الأدبي المهيب واحداً من سحرة كتابة الرواية في العالم، وهذا.. ما تبديه مرآة التاريخ الأدبي!.
Hasanhamid55@yahoo.com