الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

طوبى للموظفين في بلادنا!!

د. نهلة عيسى

الموظف في بلادنا شبيه بخبز الشعير، مأكول، مذموم، رغم أنه إنسان بسيط، بسيط حد الوجع، ليس لديه ما يخفيه، لأنه ليس لديه ما يخاف عليه، لأن ما لديه قليل، ولكنه تحوطه العيون بالأسئلة: تراه مسنوداً؟ قوة حظ هذه، أم قوة نفوذ؟ لتتراكم في حلوق الموظفين السخرية المرة، شبيهة البكاء، لأنهم لا مسنودون، ولا محظوظون، بل مجرد عمال فعلة مؤمنين بما قاله الأجداد: أكثر من القرد ما مسخ الله!!

الموظف في بلادنا.. لا أحد، وكل أحد، العاقل والأحمق، والمحب والحاقد، الكريم والخسيس، العقلاني والغيبي، المتسامح والمتحامل، الراغب والكاره، المتداني والمترفع، هو شبيه مجتمعنا، وظله، وواسطة العقد بين خيره وشره، هو حد بين حدين، ولكنه بلا أحد، لأنه في بلادنا أنت ما تملك، وما تستطيع أن تمتلك، فطوبى للموظفين في بلادنا، فهم منذورون للوجع، ولا عزاء لهم في عريهم، رغم أنف أغنية صباح “ع البساطة البساطة”، حيث تتوهم الأغنيات الجمال في الحياة، لكنهم رغم ذلك يسيرون كل يوم في الشوارع الحزينة، والسكين كالراية في الظهور مغروسة، تخبرهم أنهم في ساحة حرب يتقاتل فيها مهرجون على أصباغ الوجه، ويشقيهم أن حياة الموظفين في بلادنا بلا صباغ!

الموظف في بلادنا أيوب، شربت وتقيأت الحرب ماء وجهه، فوارى رأسه في صحف الكلام المعلوك، والفيسبوك، وكز السن على السن كي لا يساق إلى الخدمة الإجبارية في أقفاص الببغاوات، وفي حفلات نهاية الاستخدام، وصفوف النميمة المتأدبة، والأماكن الدائرية، حيث الوقت حكايات تجتر ماضياً مضى، والوجوه مربعات، كإشارات المرور، وهاجس في البال: متى ستنتهي الحرب!؟

الموظف في بلادنا، مثل كل بلادنا، كل ما فيه وحوله مساحات شاسعة من قهر وقح، يصرخ في الوجوه كل صباح: الجوع وراء الباب، فيغلق الموظفون الباب! ويلتصقون بالجدار لسند الظهر، وتجنب خوض البحر، ولكنهم رغم ذلك يصابون بدوار البحر، ودوار أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، حيث الراتب مبرر استيقاظ وليس عملاً، لأن العمل نوادي متقاعدين ومقاهي كلام، ولأن العمر تقسيط وجمعيات وسد ثغرات، تورث فيه الثغرات بعد العمر الطويل الشقي للأحفاد!!

الموظف في بلادنا مجرد خيال بشر يحمل تبعات الماضي والحاضر، وتعاقبت عليه في كل يوم الفصول الأربعة، ولا أظنه للحظة كفر، بل بقي تلميذاً نجيباً في مدرسة السكوت، مكوماً مكدوداً في قعر زجاجة من ماء النار، إن فتح فمه مات، ويموت إن صمت، ولكنه صمت، لأنه أُفهم أن كلامه قد يضر بالخبز، قد يضر بالوطن، باعتبار أن أوان كلامه – دائماً ويا للعجب! – في غير أوانه، وقرار الإفراج عن الصمت مبني للمجهول، والحياة في ظل الصمت وعدم الملاءمة – كما تعلمون – استحالت نبتة صبير صغيرة وسط عالم لا يحتفي سوى بالياسمين!

الموظف في بلادنا حجر، لا يبحث عن مبرر لما يجري وجرى، ولا يدعي أنه نبي، ولا زرقاء اليمامة، ولا عرافة بني تغلب تستجر، ببرود محايد، وقائع الغد، فهو يعرف أنه جزء مما جرى، وأن اهتراء قرص الشمس فوق رأسه هو بعض من تجاعيد كل أبناء الوطن، وبعض من تمزق خيم الستر والرضا، حيث “يوسف” يستعاد من فجر التاريخ ليلقى في البئر مئة مرة ومرة، وحيث يعقوب مودع في دار للمسنين بحكم المحكمة، وحيث كل شيء يقود إلى كل ما جرى، وحيث أيضاً، رغم تداعي آخر أوتاد الخيام، ورغم كل الوجع، ما يزال لديه أمل أن انهيارات الرماد في منجم البلد المهجور سوف تتكشف عن مآسٍ لم يحسب حسابها من باع واشترى بالموظفين وغير الموظفين في بلادنا الحزينة!؟