الاحتلال أخطر أشكال الإرهاب
على وقع المراوحة في مباحثات أستانا يتابع أردوغان استراتيجية القضم: القضم في الأراضي، والقضم في المصطلحات، والقضم في تسامح و”بعد نظر” الحلفاء، مستغلاً حقيقة أن السياسة باتت في عالم بدايات القرن الحادي والعشرين مجرد حفرة عملاقة من القاذورات والنفايات والأكاذيب. ورغم أن مهازل القدر هي التي يمكن أن تصنع لمنافق وضيع على شاكلة أردوغان حدّاً أدنى من الرصيد السياسي أو الشخصي، إلا أن ذلك – للأسف – هو واقع الأمر، فقد أعطي رئيس النظام التركي صفة الضامن انطلاقاً من رغبة أساسية لدى بقية أطراف أستانا في مساعدته على الخروج من ورطته في دعم ومساندة الإرهابيين، ليتكشّف الأمر عن إرهاب “بديل”، أو “مواز”، أو “مضاد”، اختلقه أردوغان كونه لا يستطيع فك تحالفاته مع إرهابيي “داعش” و”النصرة” بالسهولة التي تصوّرها البعض..
في مرحلة لاحقة، عمل رئيس النظام التركي على “سورنة” الجهاديين الدوليين من خلال تحويلهم إلى شبه جيش نظامي انطلق به لاقتطاع مساحات واسعة من بلدات وأراضي الشمال السوري. بالمعنى الحرفي للكلمة، هو امتطى فصائل تطلق على نفسها صفة “معارضة سورية مسلحة” لكي يضع يده، باسمها، على أراض سورية، ليعلن قبل أيام على لسان المتحدّث باسمه أن “الأرض الممتدة من إدلب إلى منبج مروراً بعفرين وجرابلس تشكّلت فيها منطقة آمنة فعلياً”، وأن تسليم هذه الأراضي لدمشق غير واقعي، قبل أن يكشف الأهالي وشهود عيان أول أمس أن السلطات التركية شرعت ببناء جدار إسمنت فاصل يحيط بمدينة عفرين في محاولة لعزلها عن محيطها الجغرافي والديموغرافي.
طبعاً، تأتي هذه التصريحات والتحوّلات في المواقف في وقت يواصل أردوغان محادثاته مع الجانب الأمريكي “بشكل مكثّف حول المنطقة الآمنة”، ومشاركته في محادثات أستانا كطرف ثالث ضامن إلى جانب الروس والإيرانيين، بمعنى أن الكاذب أردوغان مازال يعتقد أن تكتيكات المراوغة يمكن أن تكون أكثر من مجدية، وأن التلاعب الوقح يمكن أن يجعل خدماته مطلوبة، بل ويمكن أن توفّر له فرصة الفوز ببعض جوائز الترضية، ذلك على الأقل من خلال التهاون في إبداء الحزم مع طموحات توسعية لم يعد نظام العثمانية الجديدة يجد لزاماً عليه إخفاءها أو التستّر عليها، بل ولم يعد يجد حرجاً من الجهر بها على مسامع الجميع.
هنا، ومع بدء الجولة الـ 12 من مباحثات أستانا، من الضروي طرح الأسئلة العملية التي لا غنى عنها في مثل هكذا مواقف، وهي تصب أساساً في جدوى أي عملية سياسية لا تنطوي على أية آفاق محتملة طالما أن الصراع يتحوّل بالتدريج، وعلى نحو غير معلن، من مكافحة الإرهاب التكفيري المدعوم أطلسياً وخليجياً وإسرائيلياً إلى مقاومة الاحتلالات الجديدة وتحرير الأرض. لقد أيقظت الفوضى التي تعمّدت، وتتعمّد، دول الاستعمار القديم والجديد، إطالتها إلى ما لا نهاية في سورية، كجزء من التكتيكات الميدانية والاستراتيجية لكسب الحرب على الدولة السورية، أطماعاً تاريخية وجدها البعض منصة إيديولوجية لإعادة بناء أنظمة وامبراطوريات عفنة لاتزال تحلم بالسيطرة على كامل المنطقة العربية؛ والمفارقة أن أردوغان المحتل بات يعمل على فرض أمر الواقع الجديد من خلال الجلوس إلى طاولة مكافحي الإرهاب، مستمداً مبرر حضوره من خلال دعاوى مزيفة عن الحاجة إلى تعاونه أولاً، وعن ضرورة مد يد العون إليه ثانياً، وعن إمكانية إحداث الخرق الاستراتيجي الكبير الذي سينقل تركيا “الإسلام السياسي” من الكتلة الأمنية الأطلسية إلى الكتلة الاقتصادية والأمنية الأوراسية، وهو ما لم، ولن، يتحقّق، لأن جنون العظمة الإردوغانية إنما استفاق على مساندة الحلف الأطلسي في حروب البلقان وتفكيك يوغسلافيا السابقة بتجنيد الأصوليين الجهاديين أنفسهم الذين يجنّدونهم اليوم لإسقاط الدولة العلمانية والعروبية والمقاومة في سورية.
يحلم أردوغان بتكرار التجربة، وعليه فهو ينام ويستيقظ على أمنية وحيدة تتمثّل في قبوله كخادم مخلص لتنفيذ الأجندات الأمريكية والصهيونية. سيبقى أردوغان على نفاقه وتلاعبه، وإن كان قطع مسافة في مسار أستانا فذلك لأنه مخاتل وكاذب. لقد تحوّلت تركيا أردوغان إلى قوة محتلة، ولم يكن التزامها بوحدة وسلامة الأراضي السورية إلا نوعاً من المماطلة وشراء الوقت. وبما أن المسارات السياسية والدبلوماسية مرهونة بالقدرة على تحقيق الأهداف والاتيان بالنتائج، فإن آلية أستانا غير مقدّسة.. على الأقل إعادة النظر بجدول الأولويات والأطراف المشاركة، فالاحتلال إرهاب بل وأخطر أشكاله.
بسام هاشم