تصدع المجتمع الفرنسي بتقاليده التاريخية العريقة
هيفاء علي
سمح النقاش الكبير لمليوني فرنسي بالتعبير عن أنفسهم، حيث تمّت مناقشة العديد من القضايا كخفض القوة الشرائية لدى الطبقات الوسطى والدنيا وسياسة الطاقة، ومع ذلك تمّ تجاهلها إلى حدّ كبير من قبل السترات الصفراء. مطالب السترات الصفراء محقّة لكنها برأي مراقبين ليست السبب الرئيسي الذي حرك الشارع الفرنسي وأدى إلى تصدع المجتمع الفرنسي، بل هناك عوامل أخرى خارجية برأيهم ساهمت إلى حدّ كبير في تأجيج الوضع، كالأزمة التي تعصف بكافة الدول الغربية منذ تفكك الاتحاد السوفييتي وتفاقم الوضع الاقتصادي بسبب الانهيار العالمي عام 2008.
كان الفرنسيون على دراية باختفاء الطبقة الوسطى، وأجبروا على مغادرة المدن والنزول إلى “المحيط الحضري”، فلم يستوعبوا الاختفاء السريع للطبقات الوسطى في الغرب وظهورها المفاجئ في آسيا. لذلك لم يفهموا بعد أن الشرور التي تصل إليهم هي نتيجة لنجاح الجهات الفاعلة الرأسمالية الخالية من القواعد السياسية. إنهم يصرّون على تحميل المسؤولية للأثرياء وليس للقادة السياسيين الذين ألغوا قيودهم.
إن نقل الشركات الغربية باستخدام المعرفة الأساسية مفيد للجميع، حيث يتمّ إنشاء شركات جديدة باستخدام معرفة أكثر تطوراً. لم تسرق آسيا ثروات الغرب لكنها استفادت كثيراً من الاستثمار الغربي.
الخطأ الفادح الذي ارتكبه الساسة الغربيون هو أنهم تخلوا عن تنظيم هذه العملية منذ نهاية الاتحاد السوفييتي، وسمحوا بنقل التكنولوجيا بسبب الاختلافات في مستوى المعيشة بين الدول، وبالتهرب أيضاً من المسؤوليات الاجتماعية.
هؤلاء القادة، الذين كانوا في البداية متصالحين ومتعاطفين مع المتظاهرين، تصلبوا فجأة عندما فهموا أنه لن يكون من الممكن حلّ الأزمة دون الوصول مباشرة إلى طريقة حياتهم الخاصة. وقفوا بعد ذلك مع الأوليغارشية ضد الشعب، وأطلقوا قمع الشرطة مما تسبّب بالعديد من الجرحى والمعوقين، ثم تركوا المجال مجاناً للفوضويين يستغلون المظاهرات ويخربون الممتلكات العامة ويشوّهون الاحتجاجات!.
ولكن في نهاية الأشهر الثلاثة الأخيرة، أصبح المجتمع الفرنسي أكثر وعياً بالمشكلة وأكثر انقساماً. فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد “إيفوب أتلانتيكو” في 20 آذار 2019 أن 50٪ من الفرنسيين يتوقعون إجراء إصلاحات، بينما اعتبر 39٪ منهم أن ما يجري ثورة ضرورية حقيقية ضد الظلم والقمع. هذا الرقم هو ضعف ما كانت عليه الحال في الدول الغربية الأخرى التي شملها الاستطلاع. يتمّ تفسير هذه الشهية الثورية من خلال التقاليد التاريخية الفرنسية، وكذلك من جانب عرقلة المؤسسات التي تجعل أي حلّ إصلاحي مستحيلاً، ذلك أن الإصلاحات الحالية تصبّ دائماً في مصلحة وخدمة أولئك الذين يسيطرون على المؤسسات وليس للمصلحة العامة.
وضع فرنسا في العالم
بالنظر إلى الطبقة الحاكمة الفرنسية فهي مشغولة بالحفاظ على طريقة حياتها أكثر من اهتمامها بحلّ الأزمة، معتبرةً أن سبب هذه الأزمة خارجي، وأن تطورها سيعتمد بشكل رئيسي على عوامل خارجية. ومنذ سنوات خلت، حرك النقاش الطبقة الحاكمة حول احتمال حدوث ركود فرنسي، وثبت أمر مؤكد في أن الغرب بشكل عام وفرنسا بشكل خاص قد تغلبت عليهما جهات فاعلة أخرى.
فمنذ عام 2009 أي بعد الانهيار المالي في عام 2008، حقّقت الولايات المتحدة نمواً بنسبة + 34٪، والهند بنسبة + 96٪، والصين بنسبة + 139٪، في حين انخفض الاتحاد الأوروبي بنسبة -2٪.
خلال الفترة نفسها، حافظت الولايات المتحدة، التي حكمت العالم بقطب واحد بعد فترة الاتحاد السوفييتي، على انتشارها العسكري في الخارج وقدرتها على إنتاج الأسلحة، لكنها فقدت تفوقها التكنولوجي العسكري. لذا فقد تخصّصت في الحرب غير المتكافئة، أي في إدارة الجماعات المسلحة من الدول التي تقوم بتسليحها وتمويلها. في الفترة نفسها، أُعيد تنظيم جيش روسيا ومؤسساتها كافة عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وأصبحت بفضل أبحاثها العلمية القوة الأولى من حيث الحرب التقليدية والحرب النووية.
من حيث حقوق الإنسان والمواطن، فإن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تمارس القتل الجماعي دون محاكمة، في حين أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي هي الدول الوحيدة التي تعقد استفتاءات وتتجاهل الآراء التي يعبّر عنها مواطنوها. لم يعد العالم اليوم على صلة بعشرة أعوام مضت. لا تزال الولايات المتحدة في طليعة الغرب، لكنها لم تعد في طليعة بقية العالم. لقد تجاوزتها روسيا والصين من الناحية الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
فرنسا في السياسة الأوروبية
بالنسبة لفرنسا، يعني هذا منح سلطة سياسية فوق وطنية وقيادة عسكرية أجنبية في الوقت نفسه، وهذا يعني الخروج ليس بالضرورة من الاتحاد الأوروبي ولكن من مبادئ معاهدة ماستريخت. وليس من حلف الأطلسي ولكن من قيادة الناتو المتكاملة.
لا يمكن لفرنسا أن تلعب دوراً في تضافر الأمم إلا من خلال كونها دولة ذات سيادة. في الوقت الراهن، تدّعي أنها تدافع عن التعددية إلا أنها تمارس سياسة الكتلة التي تنسجم بشكل منتظم مع المواقف الألمانية.
وعليه، يرى الخبراء المختصون بهذا الشأن ضرورة أن تتخذ الحكومة العتيدة قرارات عاجلة لاحتواء الأزمة، أولها وضع حدّ لحرية حركة رأس المال، وهذا لا يعني مطلقاً حظر تحركات الأموال والتشكيك في التجارة الدولية والتوجه نحو الاكتفاء الذاتي، ولكن باستعادة السيطرة على الثروة الوطنية التي يجب أن تبقى في البلد الذي أُنتجت فيه.
والقرار الثاني يتعلق بتقليص نطاق ومدة الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وحقوق التأليف والنشر. لا تنتمي الاكتشافات والاختراعات والإبداعات والأفكار بشكل عام إلى حقوق الملكية الفردية، ولكنها تنتمي إلى الجميع. الحصريات وحقوق الامتياز هي تدابير مؤقتة يجب تنظيمها فيما يتعلق بالمصلحة العامة الوحيدة.
أما القرار الثالث والأخير فهو مراجعة اتفاقيات التجارة الدولية الواحدة تلو الأخرى، لا يعني هذا إدخال قواعد حمائية في خطر مقاطعة تطوير إنتاج السلع والخدمات، بل ضمان تجارة متوازنة.
انجراف النظام
ماكرون يدفع المنطق بعيداً. لقد أدّت عقود من السياسات الليبرالية المتطرفة التي فرضتها الأوليغارشية إلى إفقار الشعب الفرنسي. وفي مواجهة البؤس والغضب المشروع الذي ينتج عنه، ينزلق في الازدراء والغطرسة ويستخدم عنف الدولة لقمع الشعب المستاء ولأن هذا لم يكن كافياً، فقد جرّ الجيش إلى حلبة الرقص. الشعب الفرنسي سيكون عدو الأمة؟ ومن غير المحتمل أن تكون هذه الفرضية إذا ما أُخذ بعين الاعتبار عدد أعلام الألوان الثلاثة التي تطفو في مظاهرات السترات الصفراء، هذا مؤشر قويّ على أن النظام يحتضر.
في كافة الأحوال، فان الإصلاحات هي دائماً أقلّ ألماً من الثورات، ويجب إجراء هذه التغييرات طويلة الأمد بطريقة أو بأخرى مهما كان الثمن. لن ينجح الرفض الحالي للطبقة الحاكمة الفرنسية في منعها من التسلّط والرفاهية، بل يمكن أن يعمل فقط على إطالة أمد راحتهم على حساب معاناة الشعب.