حياتكم الباقية: شكر الله سعيكم
عند مشاهدة مسرحية “حياتكم الباقية” –تأليف وإخراج “سهير برهوم”، والتي تُعرض هذه الأيام على مسرح الحمرا إنتاج المديرية العامة للمسارح والموسيقا، ينصرف الذهن بالدرجة الأولى إلى النص الذي تقوم عليه هذه الفرجة الدرامية، ولأنه نص جيد فلا بد من التركيز عليه أكثر من غيره في هذه المادة، التي تحاول على عجالة، أن تلقي ضوءا على هذا العمل المميز.
يُعرف عن مخرجة العرض أنها لا تستهوي العمل على نصوص مترجمة، ببساطة لأن تلك النصوص غريبة، فهذه تجربتها الثالثة بعد كل من “ليلة الوداع” و”أمّا بعد”، وهذا تحدٍ ليس سهلا، ولكن من يشاهد “حياتكم الباقية” يدرك أنها على مستوى هكذا تحد، وهي ظاهرة يجب أن تستحق الإشادة، وهذا لا يعني أن الفرجة هي بأقل من النص، فقد أتت السينوغرافيا البسيطة مواتية ومناسبة تماما لبساطة وجمالية القصة، إذ يعتمد العرض على مبدأيّ (البناء والهدم)، في الأبعاد وعلاقتهما مع الإضاءة، أحيانا تظهر عادية، وأحيانا أخرى تركز على الحدث أو الممثل، بتناغم جيد مع الأداء الذي يشتغل على الممثل من الداخل إلى الخارج، بعد إزالة كل ما لا يلزم الشخصية، فلا يحول الممثل بين المتلقي والشخصية، كل ذلك بمساعدة موسيقى تبدو للحظات الأولى أنها غير مناسبة لمصائر الشخصيات، ولكنها سرعان ما تندمج معها، ثم تعود وتتنافر عنها في إشارة لماحة للتنافر الموجود بين قصة الحب وبين ظروف الحرب، لهذا يمكن القول أنها موسيقا تسير بتكامل مع العرض.
أهمية النص أو الفكرة التي يستند عليها العرض تتمثل في كون المؤلفة، تسحب الظرف الواقعي المُعاش وأهواله جانبا إلى درجة ثانوية من القصة، لتتكلم أولا عن الحب، فتشكل هذه الظروف عالما من الضغط على وردة من الصعب أن تتفتح فيه، وذلك في سؤال جريء قد يكون المقولة الرئيسة للعرض وهو: هل يحق للمرء التفكير فقط بنجاته؟
الصعوبات التي يعاني منها أبطال حبكة الحب، التي تحدث داخل حبكة الأهوال، تبدو غريبة وغير مفهومة ونافرة، لأنها في الظروف العادية غير مقبولة وغير مفهومة، فكيف في الظروف العصيبة المتمثلة بالحرب، والتي تؤثر سلبا على الحب بطريقتين في هذا العرض، الأولى: هي تردي مستوى الأخلاق العامة، وانخفاض منسوب التعاطف بين الناس، وهذا يجعل من الحب صعبا، لأنه يبدو غريبا في هذه الأجواء، شأنه في ذلك شأن أي قيمة سامية أو فعل جميل.
الطريقة الثانية التي تؤثر فيها على الحب: هي محافظة نفس المجتمع على نوع من أخلاقيات هي أبعد ما يمكن عن الأخلاق، وهي اضطهاد الحب والإبقاء عليه في دائرة المحرمات! فصانعة العمل تطرح بذكاء أسئلة جوهرية عديدة؛ لماذا المعاناة والألم لم ينجحا في صقل نفوسكم وجعلها شفافة أكثر؟ لماذا تغيرت نحو الأقبح من بين جميع القيم الأخلاقية التي أصيبت بالعطب؟ ولماذا تسكتون عن الجرائم وتعترضون على الحب؟ هناك إدانة واضحة وصريحة للمجتمع ككل في هذا التضاد بين الحب، ومجتمع يدعي الأخلاق بالاعتراض على الحب، ولكنه ينساها تماما ويتغاضى عنها، حيث يجب أن يُفعّلها أكثر!
يٌقال إن البساطة تصنع الجمال، وأهم ما يميز هذا العرض هو البساطة التي ظهرت سواء في النص أو في ترجمته البصرية، لكن الصعوبة في ذهن الكاتبة وأثناء العمليات الإبداعية في الاشتغال على الممثلين، على مستوى الحركة داخل المشهد والتي غالبا ما يكتبها نقاد هذه الأيام دون ترجمة وهي كلمة “الميزانسين”، والإلقاء الصوتي المنضبط المتوازن، وجودة ترويض اتجاهات الممثل في علاقة الحوار مع حركته على الخشبة.
الأصالة على مستوى العرض والشخصية، قائمة بشكل بديهي على الأصالة الكامنة في النص، وهنا يمكن طرح سؤال للذين يعتمدون على النصوص المترجمة: إن كان النص المحلي ناجحا، كما في حالة “حياتكم الباقية”، فلماذا تعتمدون على الأجنبي الذي يفشل عادة؟ أما “البروشور” فهو نقطة ضعف العمل الوحيدة، فالكبريت وأعواد الثقاب تبدو أقرب لعوالم الأطفال وقصة بائعة الكبريت، وذلك لأنها الأكثر حضورا، والأقرب على البروشور من العناصر الإنسانية.
تمّام علي بركات