شغف المسرح
سلوى عباس
المسرح – حسب الراحل سعد الله ونوس – المكان الأنموذجي الذي يتأمل فيه الإنسان شرطه التاريخي والوجودي معاً، ما يؤكد على بقاء المسرح واستمراره كرسالة إنسانية تعكس الواقع بكل قضاياه وإشكالاته، وأنه مازال يخلق لنا فضاءات تحقق انتماءنا الإنساني والمصيري، ويشكل توازننا الداخلي، ويبقى فناً تحريضياً وحواراً مفتوحاً بلا حدود للانفتاح على الآخر، فن يشتبك مع الذات الإنسانية بسرعة خاطفة، ويهيمن عليها ويستدرجها للبوح، فالعمل المسرحي هو حالة عناق حقيقي لجوهر الحياة يعمل المهتمون به على أن يكون منبراً لقضايا الوطن، وهذا ما جسدته مسرحية “كلب الأغا” التي تعرض الآن على خشبة المسرح القومي في اللاذقية، والتي يعود زمنها إلى فترة حكم الآغاوات والإقطاع وتأثيرهم على المجتمع والشعب وتفكيك أواصر علاقاتهم الاجتماعية وإخضاعهم لأوامرهم.
تدور أحداث المسرحية، المقتبسة عن نص للأديب الراحل ممدوح عدوان، في مقهى إحدى قرى ريفنا السوري حول خبر قتل كلب الآغا، وردود فعل أهل القرية على الخبر وتأثرهم به، فالبعض من الوصوليين، الذين تهمهم ممالأة الآغا وإظهار تبعيتهم له، عبروا عن حزنهم وفجيعتهم بالحدث، والبعض الآخر يرون في الخبر فرصة للتعبير عن مواقفهم ومبدئيتهم ورفضهم لحكم الآغا وتسلطه؛ وفي لحظة من الهرج والمرج بين الأهالي يأتي أحد شباب القرية الذي أرسلوه لمعرفة تفاصيل أكثر عن خبر مقتل الكلب فيأتيهم بخبر مغاير للخبر الأول بأن المقتول هو آغا القرية وليس كلبه.
تهدف المسرحية إلى إظهار الأشخاص الذين يبيعون أنفسهم لأسيادهم ويصبحون عبيداً لهم وإظهار الفرق بينهم وبين من لا يرضون التبعية ويثورون على الآغا رغم المخاطر، وهؤلاء هم الأمل للفقراء والمضطهدين في تحريرهم من الاستبداد والعبودية، وبالتالي أحداث المسرحية لا تقتصر على زمن الإقطاع والآغاوات، فلكل عصر إقطاعه وآغاواته، وفي كل زمان يوجد من يعتمدون النفاق والتسلق مبدأً لهم، بالمقابل هناك من يعتمدون الصدق والقيم والأخلاق مبدأً، ما يؤكد راهنية المسرح ومصداقية العاملين فيه لأنهم استطاعوا أن يدركوا لذة أن يقدموا على خشبة المسرح عملاً له لون وطعم ورائحة الحلم الذي يرغبون، وسيبارك لهم الجمهور الذي تغص به صالات العرض موهبتهم وجديّتهم في طرح مشكلات البشرية ومعاناتها، ويتمنّى لهم التوفيق بعملهم ورسالتهم التي نذروا أنفسهم لها وتحوّل المسرح إلى طقس يشدّ الناس إلى فضاءاته الرحبة.
ما رأيناه من محبة واجتهاد فرقة المسرح القومي في اللاذقية، بدءاً من مؤلف العمل ومخرجه الفنان فايز صبوح الذي يعيش شغف المسرح وانتمائه إليه في كل ما يقدمه، سواء في التمثيل أم في الإخراج والأفكار التي يطرحها، ويساعده في ذلك الفريق المتعاون معه من مساعدة المخرج غادة إسماعيل وفنيي الإضاءة والديكور اللذين تناغما مع زمن الحدث، والممثلين: مصطفى جانودي- خليل غصن- محمود كعيد- أشرف خضور- فايز صبوح- محمد أبو طه- غيد غانم- ريم نبيعة- نبيل مريش- زينب لايقة- سمهر بدور- بشار حسن- مجد عمران، والطفل حمزة صبوح الذي جسّد في العمل شخصية صبي المقهى والشاهد على خلافات أهل القرية، والذي يرى نفسه في حالة ضياع إلى أي فريق ينتمي.
“كلب الآغا” عمل صنعه فنانون من أرواحهم يتسلل الضوء ويلتف كخيط ينسجون به للحياة ثوب الأمل، والأجمل هو وفاؤهم لأنفسهم عبر إهدائهم العمل لروح الفنان فواز الجدوع الذي لم يسعفه القدر بإتمام دوره في العمل ليكون تحية حب لنبله الفني والحياتي.