صرعة الدولار والمواجهة بقرار
الدولار ليس سلعة، لكننا حوّلناه.. وإن كان سلعة في سوق النقد وفق مفاهيم فلسفة الاقتصاد، فالأكيد أنه ليس سلعة شعبيّة، لكننا أيضاً حوّلناه، وبات سيرة على كل لسان، حيث لم يعد مهماً سلامة اللفظ التي تبعثرت وتاهت في مخارج حروف باعة البقدونس وبسطات الأجبان البلديّة.
لعلّها الذهنيّة الذرائعيّة، هي التي فعلت فعلها هذه المرة أيضاً، بما أنها مستحكمة فينا تقليدياً، وصنّعت من العملة الأمريكية سبباً مباشراً في ارتكاساتنا الكثيرة، دون أن نكترث لحقيقة الموقف الصعب الذي نواجهه، ودون أن نسأل عن أثر العوامل الذاتية ضعف وهشاشة قيَميّة وقلّة انضباط وأخلاق أيضاً، وإلّا لماذا تحوّل الدولار إلى “متراس” يتلطّى خلفه هواة الجنوح والارتكاب في أسواقنا وفي حنايا اقتصادنا المُرهق، ولماذا نُسعّر سلع إنتاجنا الزراعي المحلّي وفق مؤشرات سعر صرف ليرتنا أمام الدولار، رغم أن مدخلات بعضها أو معظمها يفتقر إلى أي محتوى أو مكوّن دولاري، فما علاقة الدولار بسعر كيلو الحمّص أو الفول البعل مثلاً، ومثله سلسلة طويلة من المنتجات الزراعية السورية، حتى البريّة منها؟؟؟.
تساؤلات كثيرة كلّها بالغة الواقعيّة، لكنها تنتهي بسؤال ربما هو الأكثر واقعيّة بينها، يستفسر عمّا إذا كان من الحكمة التعويل على الضمير والأخلاق في ضبط إيقاع الأسواق والمؤسسات وإدارة اليوميّات الصعبة في مثل هذه الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد؟؟.
في تجربة الثمانينيات ومأزق الليرة الذي انحدر بسعر صرفها من 395 قرشاً إلى عتبة الخمسين ليرة مقابل الدولار الواحد، كان هناك إجراء شهير صدر بقانون اسمه القانون 24 للعام 1986 ، يمنع تداول الدولار والعملات الأجنبيّة تحت طائلة عقوبات قاسية، ويؤكّد بعضهم أن فعالية القانون في حينها كانت كبيرة في تحصين الليرة من مزيد الانهيار والتقهقر، لأنه منع عامل التأزيم على الأقل، إن لم يكن قد منع مؤثرات وانعكاسات الأزمة.
ونحن على يقين اليوم من أن ليرتنا مأزّمة أكثر مما هي متأزمة، وأن المضاربين وتجار الفوركس، والحاذقين في إدارة ماكينات جني الأرباح الخياليّة، قد تسببوا برضوض عميقة لليرة، وأساؤوا للاقتصاد ولكل مواطن أيضاً، فهل من حلّ رادع إلّا بقانون شبيه بالقانون 24 ولو بشكل مؤقّت، ريثما تنجلي غيوم الأزمة؟؟.
هو إجراء غير فنّي، أي بوليسي ليس له شعبيّة في الأوساط الاقتصادية، ولاسيما لدى من لم يصدّقوا أنهم قد تخلّصوا من القانون 24 مع إلغاء محاكم الأمن الاقتصادي في العام 2004، لكن هل من إجراء آخر يحمي الليرة والاقتصاد والمواطن في ظل ضيق دائرة الخيارات الأخرى ولا سيما الفنيّة منها، سوى الإجراءات الزاجرة لمن أزّموا البلاد بنشاطهم التخريبي الذي لا يختلف من حيث النتائج عن نشاط الإرهاب المسلّح؟؟.
مهم جداً أن نعزل حركة الدولار والعملات الأخرى عن قنوات التداول التقليدي في أسواقنا، ونحصرها في القنوات المصرفيّة والأخرى المُرخّص لها، وليرتفع سعر الصرف حينها مهما ارتفع، فهو ليس شأن المواطن بتاتاً، وإن لم نفعل سنبقى ندور بسرعة – حتى الغثيان – في حلقة مفرغة..
لقد تحوّلت “الدولرة” إلى ثقافة وافدة تتسع دائرة الشغوفين بها في مضمارنا المحلّي ، تماماً كما الأزياء وأنماط السلوك وتابلوهات العولمة الجديدة، لكن كل ذلك يبدو خياراً شخصياً إلّا الدولرة، فهي كارثة اقتصادية حقيقيّة.
وفي ظل سلسلة الخيارات الواسعة من وسائل الحفاظ على قيمة المدخرات النقدية بالليرة السورية، من الذهب إلى العقار إلى موجودات أخرى ثابتة تتحرك أسعارها بتحرّك سعر صرف الدولار وليس الليرة، وبالتالي ضمان حقوق أصحابها، يمكننا الادّعاء أن الدولار هو خيار المهزومين و المتأهّبين دوماً للمغادرة، بل الهروب إلى حيث هرب كثيرون خصوصاً ممن ادعوا يوماً أنهم رجال أعمال وطنيون..
ناظم عيد