ثقافةصحيفة البعث

زياد الرحباني.. الصوت بدلا عن السينوغرافيا

 

تجربة “زياد الرحباني”-1956-على مستوى المسرح، لم تلق اهتماما على مستوى النقد لها بعد، ولا على مستوى الدراسات الأكاديمية! قد يكون السبب أنه لم يشعر بعد بأن تجربته، هي مدرسة مسرحية تامة الأركان، وطلابنا يعلمون عن مسرح العبث واللامعقول، ويخوضون عن العلبة الإيطالية والعلبة غير الإيطالية، وليس في مناهجهم شيء بخصوص هذه التجربة.
عند الاستماع لواحدة من مسرحيات زياد الشهيرة، تكون المفاجأة أن كل شيء واضح بالصوت ومفهوم وقريب، الشخصيات، الحوارات التي تميزها، الأغاني التي تتخللها، في تمسك من زياد بمسرح الأغنية، الذي هو الامتداد الطبيعي للمسرح الشعري، يضاف إلى ذلك المؤثرات الصوتية، التي تصل من الجمال والإتقان، حدا يثير الدهشة.
في مسرحية “نزل السرور” -1974-المؤثرات الصوتية تستحضر أجواء بهو فندق، وفي “بالنسبة لبكرا شو-1979″، صوت ماكينة الكاشير، وفي “فيلم أمريكي طويل-1980″، هناك أصوات طائرات لا تتوقف عن الإقلاع والهبوط، فتمنح حضورا قويا للمكان، وهو هنا مستشفى نفسيا في منطقة قريبة من المطار، وفي “شي فاشل-1983-أصوات تصميم الديكور والعمل عليه، من نشر وثقب وطرق مسامير، والقائمة تطول.
الموسيقار الكبير لم يقدم فقط موسيقى درامية أو أغان كاملة لتلك المسرحيات، بل أيضا المؤثر الصوتي، الذي نجح تماما في التعويض عن الفرجة، في زمن انتشار “شريط الكاسيت” الذي أصبح اليوم من الماضي.
التجربة الفريدة والسباقة على مستوى المسرح العالمي، قد تكون بدأت بطريقة الاكتشاف، بداية هناك مسرحيات عاصي ومنصور، مع صوت وأداء الكبيرة فيروز، وصلت للناس من خلال الإذاعة، في حقبة كانت فيها المسجلة والكاسيت علامة ترف وقليلة الانتشار، بل في أواخر زمن الفونغراف أو الأسطوانة، ولكن ومنذ منتصف السبعينيات، بدأ زمن رواج الكاسيت والمسجلة، أعمال الأخوين وفيروز انتقلت إليها، لكنها لم تكن قد صممت لها، بل للراديو، وهذا ما يميزها عن أعمال زياد، التي تستثمر هذه التقنية الجديدة إلى أقصى مجال بمؤثرات وموسيقى تبلغ جودتها وجمالياتها أنها تنافس أهم أعمال السينما العالمية.
الآن في وقت اليوتيوب، الذي جاء بعده بفترة قريبة زمن الفيس والانستغرام، وقبلهم بقليل، استعملنا ال “سي دي”، وال “ديفيدي”، وهما الآن في مرحلة الانقراض، أما المسجلة والكاسيت فقد أصبحا آثارا، فالتسارع في الابتكارات، جعل الناس يلهثون للحاق بها، وهو تسارع كان منذ مطلع السبعينيات، ولكن بمعدل أبطأ، وزياد تمكن تماما من إخضاع فنه للتقنية إلى حد البراعة، ووصل إلى الجماهير كما ينبغي، ففي الوقت الذي كان فيه طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية، يتعلمون عن كيفية إقناع الناس بالذهاب إلى صالات المسرح، ويشتكون من كساده، كان زياد يذهب بفنه ليضعه بين يدي الجمهور، بعد أن كسر عرفين اثنين من أعراف المسرح، العرف الأول هو (الحضور المكاني)، فلم يعد الجمهور بحاجة إلى المجيء إلى المسرح، والعرف الثاني وهو من داخل وجوهر هذا الفن، ومن داخل الخشبة، ألا وهو السينوغرافيا، فإذا كانت وظيفة السينوغرافيا الأولى هي تحديد مكان وزمان المشهد بواقعية، أو بشكل تجريدي، وتقديم إطار بصري للحركة والأداء، يساعدهما بأن يكون أرضية لهما كشكل، فإن زياد الرحباني استغنى عن كل ذلك، واستبدل به المؤثر الصوتي والموسيقا، كما لو أن هذا الصوت عند هذا العبقري، يضيء.

تمّام علي بركات