كاتدرائية نوتردام من الزاوية المشرقية
وقفت جموع الناس أمام كاتدرائية نوتردام في باريس في 16 نيسان بعد الحريق الذي طالها ودمر جزءاً كبيراً من برجيها وسقفها المرصع بالأحجار الكريمة، ولم تعرف حتى الآن أسباب الحريق، والمثير للاستغراب أن القليل من الناس يعرفون أن بنية كاتدرائية باريس وبرجاها التوءم يحيطان بمدخل متقن، ووردتها، وخزائنها المدببة، تدين بأصولها لأسلافها في الشرق الأوسط. هذا ما نوهت إليه الباحثة “ديانا دراك” الخبيرة في ثقافة الشرق الأوسط، والمختصة بتراث سورية، حيث تحدّثت عن الهندسة المعمارية للكنائس الأوروبية المستوحاة من الهندسة المعمارية العربية، لكنها خصت الحديث عن كاتدرائية نوتردام باريس.
لفتت دراك إلى أن برجي الكاتدرائية هما أقدم مثال على تلة في شمال غرب سورية، في محافظة إدلب، تتوضع عليها كنيسة عريقة مبنية من حجر الجير المحلي في منتصف القرن الخامس، وكان يطلق على هذا الصرح اسم “قلب اللوز”، ويعد بحق أفضل مثال على فن الهندسة المعمارية للكنائس السورية، وكان مقدمة لما سيعرف بعد حين الفترة الرومانية، إلا أنه لم يتم الاعتراف بأهميتها إلا في وقت متأخر، حيث تم إدراجها عام 2011 في أحد مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو، والتي تم تصنيفها على أنها “قرى قديمة في شمال سورية”. على المستوى المحلي كانت تُعرف باسم “المدن الميتة”، وهي مجموعات تضم حوالي 800 مستوطنة حجرية بيزنطية تضم أكثر من 2000 كنيسة يرجع تاريخها إلى القرنين الرابع والسادس. ومؤخراً أطلقت عليها وزارة السياحة السورية “المدن المنسية”.
في الداخل، تنقسم الكنيسة إلى ثلاثة أقسام مع صحن مركزي ووجود ثلاثي في كل مكان: الأوعية الثلاثة، الأعمدة الثلاثة على كل جانب من الجهة، ثلاث نوافذ أمامية، ثلاث نوافذ في الحنية وثلاثة أقواس تفصل صحن الحواشي، وعندما رأى الصليبيون هذه الأشكال المعمارية في القرن الثاني عشر نقلوا هذه الفكرة إلى أوروبا.
وما يسمى اليوم القوس “القوطي” الشائع جداً في نوتردام وفي جميع الكاتدرائيات العظيمة في أوروبا، تطوّر انطلاقاً من القوس المكسور، وشوهد لأول مرة في مسجد ابن طولون في القاهرة، ومن ثم تم نقله إلى صقلية من قبل تجار أمالفي.
ومن خلال معرفتهم العميقة بالهندسة وقوانين الإحصاء، طوّر المسلمون كلاً من قوس حدوة الحصان الذي ظهر في الجامع الأموي بدمشق، ثم قام الأمويون بتطويره في الأندلس في المسجد الكبير في قرطبة، والقوس المكسور لإعطاء ارتفاع أكثر من القوس القديم الكلاسيكي.
وأضافت الباحثة: كان أول مبنى يُستخدم في أوروبا هو دير مونتي كاسينو في إيطاليا عام 1071 بتمويل من تجار أمالفي، ثم انتشر القوس المكسور شمالاً إلى دير كلوني في فرنسا. انطلاقاً من هاتين الكنيستين وسط الكنائس الأكثر نفوذاً في أوروبا، انتشر هذا المنحى، وأصبح القوس “القوطي” المكسور أقوى من القوس الدائر الذي استخدمه الرومان والنورمان، وقد مكّن ذلك من إنشاء مبان أكبر وأطول وأكثر مهيبة وتعقيداً مثل الكاتدرائيات الكبرى في أوروبا، كما توجد المقترضات ذات النمط الإسلامي في كاتدرائية نوتردام، وهي الأقبية المضلعة المستوحاة من العصر العباسي في القرن الثامن عشر، والورود من القصر الأموي لخربة المفجر في الضفة الغربية، بالقرب من أريحا، اكتشفت لأول مرة في القرن الثامن، والسهم الذي انهار بشكل كبير في نوتردام.
أول سهم معروف موجود في الجامع الأموي بدمشق بُني في أوائل القرن الثامن، وقد تم في انكلترا إنشاء أول سهم في الجزء العلوي من كاتدرائية القديس بولس عام 1221، إلا أنه انهار أثناء اندلاع حريق لندن الكبير في عام 1666، ثم أعيد بناؤه في عام 1710 من قبل كريستوفر ورين المولع بالعمارة الإسلامية، والذي قام بدراسة وإجراء أبحاث مستفيضة حول المساجد المغربية والعثمانية، كما تجلّى التأثير الإسلامي القوي في أوروبا عموماً، وفي نوتردام خصوصاً مع مزيج القبة والبرج.
هيفاء علي