الرقص على حافة الهاوية
طلال الزعبي
يحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تغطية إخفاقاته في مكان ما من العالم، بصناعة مشكلة جديدة في الطرف الآخر منه، مستخدماً أسلوباً همجياً في العلاقات الدولية لا يمارسه إلا زعماء المافيات.
هذا الرجل بحكم أنه تاجر بالدرجة الأولى، يحاول دائماً إخضاع منطق السياسة في العلاقات الدولية لنظرياته التجارية التي يبرع في استخدامها والتي تعتمد بشكل مطلق على إمكانية الحصول على صفقات تجارية مربحة بأقل التكاليف، فقد اتخذ منذ وصوله إلى سدّة الرئاسة في البيت الأبيض مجموعة من القرارات المتهوّرة التي أثارت ردود فعل غاضبة لدى حلفاء واشنطن قبل أعدائها، وهو يحاول أن يقول إن ذلك تابع لشعاره الذي أطلقه “أمريكا أوّلاً”، وفي الحقيقة يعمل على أن يكون “ترامب أوّلاً” بكل ما يحمله ذلك من عنصرية وتعصّب وأنانية وغطرسة، وصفات لا يمكن أن تؤسّس لعلاقات دولية سليمة بالمطلق.
فالمراقب للمشكلات التي أثارها ترامب في العالم منذ عامين إلى الآن، يرى أن هذا الرجل يتعامل مع السياسة والعلاقات الدولية على أنها صفقة تجارية، وأن وجوده على رأس السلطة في الولايات المتحدة يجب أن يكون ممرّاً لتسمين إمبراطوريته المالية، حيث نلاحظ أن الحرب التجارية التي شنّها على خصومه وحلفائه الدوليين كان يراد منها فقط السيطرة على التجارة العالمية، وجعل كل إيراداتها تدخل إلى الخزانة الأمريكية التي يعتبر نفسه وصيّاً عليها، وهذا بحدّ ذاته يجعل من الطبيعي أن يبحث ترامب عن الدول التي يمكن أن تغذّي نزعته إلى المال، فلم يكن غريباً تصريحه لدول أوروبا والخليج بأن عليهم أن يدفعوا له شخصياً ثمن حمايته لهم، وكذلك لم يتوانَ عن الحديث بأن وجوده في العراق هو لتحصيل تريليون ونصف تريليون دولار من سرقة النفط العراقي.
وفي هذا الإطار حاول أن يصل بالعلاقات الأوروبية الروسية إلى درجة الطلاق بتغذية النزاعات بين بعض الدول الأوروبية وروسيا وخاصة مع بريطانيا وأوكرانيا، حيث أصرّ على تخريب علاقات الجوار بين أوكرانيا وروسيا لدفع أوروبا إلى التخلي عن خط النفط الروسي، وكذلك عارض بشدّة مشروع السيل الشمالي الروسي الأوروبي، حتى يتسنّى له إجبار أوروبا على استيراد النفط الأمريكي الصخري بدلاً منه.
وفي السياق ذاته، اختبأ وراء رفضه للاتفاق النووي مع إيران بحجة أنه لم يأخذ مسألة الصواريخ الإيرانية بعين الاعتبار، وفي الحقيقة هو لا يبحث عن اتفاق بعينه مع إيران، وإنما يبحث عن طريقة لرفع أسعار النفط بشكل إجباري، بعد أن يُحدث خللاً في سوق النفط العالمي، من خلال عمله الدؤوب على تصفير تصدير النفط الإيراني الذي أكد محللون اقتصاديون ومراقبون أنه لا يمكن مطلقاً الوصول إليه بالنسبة لإيران، وخاصة أن الصين وتركيا على الأقل لن يلتزموا به، وهما يستوردان نصف الكمية التي تصدّرها إيران إلى العالم، هذا فضلاً عن أن إيران بالفعل كان لديها خطة في هذا العام للتخفيف من الاعتماد على الصادرات النفطية.
وحتى اعتراف ترامب الأحمق بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، يتعلق في جانب منه بالمخزون الهائل من النفط الذي تم اكتشافه في هذه الهضبة، حيث يعتبر الجولان جزءاً من صفقة يطلق عليها اسم “صفقة القرن”، وهي في معظمها تستند إلى حلول اقتصادية، حسب التسريبات، تُمكّن الكيان الصهيوني- ومن ورائه الولايات المتحدة- من بسط سيطرته على الثروات الموجودة في المنطقة، وعلى رأسها النفط والغاز.
وإذا علمنا أن النفط الصخري الأمريكي لا يمكن الاستفادة منه في التصدير، بوجود أسعار نفط عالمية عند حدود 60 دولاراً للبرميل؛ لأن تكاليف استخراجه تصل إلى رقم قريب من أسعار النفط العالمية، فإن ذلك يبرّر بشكل طبيعي لجوء ترامب إلى محاولة غزو فنزويلا التي لديها نفط طبيعي رخيص للاستفادة من فارق السعر في تحقيق أرباح خيالية عبر سرقة نفط فنزويلا، ويبرّر أيضاً لجوءه إلى إخراج النفط الإيراني من السوق، وهي ثالث أكبر دولة مصدّرة للنفط في “أوبك”، محاولاً أن يبدّد مخاوف المستهلكين بالقول إنه سيعمل على الحفاظ على توازن السوق، ولكنه في الحقيقة يحاول أن يصنع زلزالاً في الأسواق العالمية للوصول بسعره إلى أسعار باهظة يتمكن من خلالها من تصدير نفطه الصخري وجعله ذا جدوى، حيث لا يمكن الوصول إلى أرباح للنفط الأمريكي الصخري الباهظ التكاليف دون رفع أسعار النفط عالمياً.
ترامب اتّخذ خطوته الأخيرة بإلغاء الإعفاءات، وهو يريد استفزاز إيران لتنفيذ تهديدها بإغلاق مضيق هرمز، حتى يصل إلى منع 40% من النفط العالمي من الوصول إلى الأسواق، وبالتالي يصبح النفط الأمريكي الصخري بمنزلة “دوموسين” الإله المخلّص لهذه الأسواق، وخطوته مع إيران لا تختلف كثيراً عن الخطوة التي ارتكبها مع فنزويلا على اختلاف الجغرافيا.
فالمسألة هنا باختصار لا تعدو كونها عملاً ممنهجاً يهدف إلى استفزاز إيران إلى أبعد الحدود من خلال الإيحاء بمنعها من تصدير نفطها عبر مضيق هرمز، الأمر الذي يدفع إيران إلى تنفيذ تهديدها بإغلاق المضيق، فترتفع أسعار النفط إلى أرقام خيالية، بعد خروج 40% من نفط السوق من التداول، وبالتالي يتمكّن النفط الصخري الأمريكي من الحلول محل هذه الحصة في السوق، فينقلب التأييد السعودي الإماراتي لمعاقبة إيران في هذا الجانب وبالاً عليهما، بعد أن يتم تصفير النفط الخليجي كله، وربما يؤدّي ذلك إلى انهيار اقتصادات الخليج، فيكون مثل دول الخليج كمثل “براقش” كلبة السوء الدالة على أهلها، وخاصة أن واشنطن تخطط فعلياً لمعادلة حصّتي روسيا والسعودية معاً من النفط بحلول عام 2025.