تهويد الجليل
د. معن منيف سليمان
قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في عام 1976م، بمصادرة آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية، وخاصّة في منطقة الجليل، وعلى إثر هذا الاعتداء الممنهج، قرّرت الجماهير العربية في الداخل الفلسطيني إعلان الإضراب العام احتجاجاً على مصادرة أراضيهم، حيث وقعت اشتباكات مع أجهزة القمع والتنكيل الصهيونية، واستشهد عدد من المواطنين في مدن الجليل، ومنذ ذلك الحين يحيي الفلسطينيون هذه الذكرى تحت اسم “يوم الأرض” التي أصبحت مناسبة وطنية فلسطينية وعربية، ورمزاً لوحدة الشعب العربي في فلسطين وبقائه، ومنطلقاً متجدداً للتمسّك بالحقوق والهوية، ومواجهة الاستيطان، والتوسع العنصري.
أعلنت سلطات الاحتلال الصهيوني في أوائل عام 1976 عن خطة استيطانية لتهويد الجليل تحت عنوان: “مشروع تطوير الجليل”، واشتمل المشروع على تشييد ثماني مدن صناعية في الجليل تمتدّ على مساحة عشرين ألف دونم من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي التي يطلق عليها اسم “الأراضي البور والمهملة”، ذلك أن نظرية الاستيطان والتوسّع الصهيوني توصي بألا تقام مظاهر التطوير فوق الأراضي المطوّرة.
وتهويد الجليل يُعدّ من أبرز الأهداف التي يسعى الصهاينة إلى تحقيقها، وقد حدّد الإرهابي “ديفيد بن غوريون” هذا الهدف بقوله: “الاستيطان نفسه هو الذي يقرّر إذا كان علينا أن ندافع عن الجليل أم لا”. وتنفيذاً لهذه السياسة سعت “إسرائيل” لبسط سيطرتها على أجزاء واسعة من الجليل، وأقامت عليها عدّة مستوطنات، وكما هي العادة سوّقت عملية اغتصاب الأراضي بأنها أراضٍ للغائبين، ولكنّها في الواقع لم تقتصر على اغتصاب أراضي الغائبين، وإنما استولت على أملاك حكومة الانتداب البريطاني، التي تقدّر مساحتها بنحو (203) مليون دونم، ولم تكتف بذلك، بل استولت على أراضي العرب الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم، وكان العرب يملكون حتى عام 1948م، نحو (13) مليون دونم من أصل (27) مليون دونم، في حين لم يكن للكيان الصهيوني سوى (501) مليون دونم، والباقي أراضٍ مشاع.
ومنذ عام 1948م، عدّت “إسرائيل” وجود العرب في الأراضي التي تحتلّها خطراً عليها، فانتهجت حيالها إستراتيجية استهدفت الاستمرار في الإرهاب والتمييز العنصري لإجبار الفلسطينيين على الرحيل وإفراغ الأرض من أهلها الشرعيين، وتبعاً لذلك حاكت عمليات تهجير واسعة “ترانسفير” لعرب عام 1948م، عن مدنهم وقراهم، فأصدرت التشريعات التي تخدم وتعزّز عملية الاستعمار الاستيطاني وتبنى على التفوق العنصري كون العرب أغياراً، فلجأت إلى اتخاذ إجراءات قانونية للتخلّص من السكان العرب الأصليين وتغييبهم، وعلى هذا الأساس انطلق الهيكل القانوني لـ”إسرائيل” التي عبّرت عن نفسها من خلال بنية متكاملة من القوانين العنصرية وهي جميعها تهدف إلى اغتصاب الأراضي العربية وانتزاعها من مالكيها العرب، وطرد هؤلاء المالكين منها حتى تمكّنت من تجريد العرب من نحو مليون دونم من أخصب أراضيهم، وكان آخر القوانين في هذا المجال قرار “تطوير الجليل” الذي صدر عن مجلس وزراء “إسرائيل” بعد أن زادت نسبة سكان العرب فيه عن 50 بالمئة.
وعلى خلفية هذا القرار واستمرار المصادرات والتهويد شكّل العرب الفلسطينيون في منطقة الجليل “لجنة الدفاع عن الأرض” التي اتخذت عدداً من القرارات كان أبرزها الدعوة لعقد مؤتمر شعبي للمطالبة بوقف المصادرة، وإصدار نداء إلى الرأي العام لحثّه على مقاومة المصادرة. ودعت اللجنة إلى اجتماع آخر في الناصرة يوم 6/3/1976م، دعت إليه نحو عشرين رئيساً من رؤساء المجالس المحلية، واتخذ المجتمعون قراراً بإعلان الإضراب العام يوم 30/3/1976م، استنكاراً لمصادرة الأراضي العربية.
يُعدّ قرار الدعوة إلى إضراب عام لعرب الداخل أول قرار من نوعه منذ نكبة فلسطين عام 1948م، إذ ظهر الشعب العربي في فلسطين كشعب منظّم، استوعب فيه أبعاد قضيته الأساسية ألا وهي قضية الأرض، وبدأت الجماهير تحضّر لذلك اليوم التاريخي، ولم تكن تمتلك من السلاح سوى الإيمان والعزيمة، وقد استجابت كل التجمعات العربية في الجليل للإضراب رغم المحاولات الإسرائيلية لإخفاق هذا اليوم وبأيّ ثمن، فعمدت سلطة الاحتلال إلى منع حدوث هذا الإضراب عن طريق التهديد بقمع المظاهرات والعقاب الجماعي، وعزّزت قوات القمع والتنكيل في القرى والمدن العربية للرّد على الإضراب والمظاهرات، وقامت قيادة “الهيستدروت” بتحذير العمال وتهديدهم باتخاذ إجراءات انتقامية ضدّهم، وقرّر أرباب العمل في اجتماع لهم في حيفا طرد العمال العرب من عملهم إذا ما شاركوا في الإضراب العام في “يوم الأرض”، وكذلك بعث المدير العام لوزارة المعارف تهديداً إلى المدارس العربية لمنعها من المشاركة في الإضراب.
بدأت الأحداث يوم 29/3/1976م، بمظاهرة شعبية في دير حنا، فقمعت هذه المظاهرة بالقوة، وبعد ذلك خرجت مظاهرة احتجاجية أخرى في عرابة، وكان الرّد أقوى، حيث سقط خلالها عشرات الجرحى وشهيد واحد، وما لبثت أن اتسعت دائرة المظاهرات والاحتجاج وامتدّت إلى جميع المناطق العربية في اليوم التالي 30/3/1976م، على الرغم من جميع الإجراءات الصهيونية القمعية وأساليب التهديد، وخلال المواجهات في اليوم الأول والثاني سقط ستة شهداء.
وهكذا غدت الأرض ويومها رمزاً للبقاء والكيان والهوية، ولمواجهة الاستيطان وجدار الضم والتوسع العنصري الذي تبنيه سلطات الاحتلال فوق الأرض الفلسطينية المحتلة، وهو يوم يعبّر فيه الفلسطينيون عن رفضهم لكافة السياسات الإسرائيلية وممارساتها التعسفية خاصة في القدس المحتلة من مصادرة لأراضيها وبناء المستوطنات عليها وضمّ المقدّسات وسرقة لآثارها وطرد لسكانها.