ثقافةصحيفة البعث

روما.. بين الحياة والحلم

 

يعود المخرج ألفونسو كورون في فيلمه الأخير “روما” إلى أيام طفولته في المكسيك عام 1970 وتحديداً إلى مدينته روما ومنزله والأماكن التي عرفها وكبر فيها، ويدعونا لنرى عن كثب تفاصيل حياة أسرته في تلك الفترة التي قرر فيها والده الرحيل في ذلك الوقت الحرج من تاريخ المكسيك والعصيب في حياة خادمتهم آنذاك “ ليبو”، التي سماها في الفيلم كليو، على حد سواء.

يستند الفيلم على ذكريات ألفونسو وليبو إلى حد كبير رغم هامش الشك الذي يتركه المخرج للمشاهد ليميز بين الحقيقة والخيال، ومن هذا المنطلق جاء اختيار كورون لممثليه على أساس شبههم بالشخصيات الحقيقية، فالممثلة مارينا دي تافيرا لعبت دور صوفيا السيدة القلقة المضطربة، واختار يالتزيا أبارسيو للعب دور كليو بناء على شبهها بليبو رغم أنها لم تمثل في حياتها قط، وكأنه يبعث الماضي من جديد بشخوصه وأماكنه وأحداثه.
يبدأ الفيلم بمشهد شطف أرضية الممر وصورة السماء المنعكسة على الماء تحت فقاعات الصابون وصوت تدفق الماء، وتأخذ عملية الشطف وقتها الطبيعي الطويل وكأن المخرج يزرع فينا الصبر من البداية ليعلن منذ أول لحظة أن هذا ليس مجرد فيلم، بل هو نافذة ننظر عبرها من الحاضر إلى الماضي بوقته وتفاصيله وأحداثه وهذا ما عززه كون الفيلم بالأبيض والأسود ولكن بدقة عصرية عالية تبقينا خلف هذه النافذة الزمنية بأقدام ثابتة في الحاضر.
يتسع عالم ألفونسو القديم أمامنا لنرى كليو ونتابعها حول المنزل، فنراها تقوم بأعمالها المنزلية اليومية وتعتني بالكلب وتنظف مخلفاته، ويدعونا لننظر في لقطاته الواسعة المزدحمة إلى ما يعجبنا ويلفت انتباهنا، ففي كل لقطة هناك شيء ما قد يلفت انتباه أي مشاهد ويوقظ فيه ذكرى أو شعور قديم، مهما كانت خلفيته الاجتماعية أو ثقافته، ولا يقل هذا التنوع في الصورة عن تنوع الأصوات في الفيلم، أصوات الكلب والأطفال والصحون ومذياع الخادمات المصاحب لهن في أعمالهن الشاقة والسيارات والضحكات وحتى شاحذ السكاكين المتجول.
يتبع هذا الفيلم حياة الشخصيات اليومية التي تفضح وتعري أعمق مشاعرهم، فنرى الأب الذي يولي عناية كبيرة بركن سيارته تكاد تفوق حماسته للقاء أطفاله الذين ينتظرونه بفارغ الصبر، وحركاته التي تبوح للمشاهد بأن هذا الأب التعيس يخطط للرحيل، وكليو التي تغني للأطفال حتى يناموا وتقبّلهم في الصباح وتداعب وجوههم وتحضر لهم الطعام وتحدثهم عن أحلامهم بصدق مبدية الكثير من الحب والاهتمام الأمومي، وكأنها فرد أساسي من العائلة رغم الأوامر التي تذكّرها بأنها خادمة فلا تجلس مع العائلة لمشاهدة التلفاز حتى ترسلها السيدة للمطبخ، كما تنزل عليها غضبها بعد رحيل زوجها الدكتور رغم محاولاتها البائسة لإبقائه، ولكن المرأتين رغم اختلاف موقعهما متشابهتان، امرأتان وحيدتان تكابدان الخيبة بعد رحيل الرجل وتملصه من مسؤوليته. فحبيب كليو فيرمن يهرب حال معرفته بحملها ليعود لحياته الوضيعة ووهم البطولة الذي يعيش فيه، والدكتور يهجر عائلته بحثاً عن المتعة والمغامرة مع امرأة أخرى، الرجال في عالم كورون يحاربون طواحين الهواء تاركين النساء ليطحنوا الصخر بأيديهن العارية وبطونهن المنتفخة، ويزيد الفقر الطين بلة، فكليو تخاف أن تطردها سيدتها وتداري الأسى الذي يراودها عندما تفكر بمستقبل طفلتها القادمة إلى الشقاء وإلى عالم تحنط فيه رؤوس الكائنات الضعيفة وتعلق على الجدران، إن الحياة تقذف آمال الفقراء ونخب مستقبلهم في وجههم وترميها على الأرض لتحملهم بالأسى أكثر وتيقظهم من أي حلم بالسعادة، فتولد أقدارهم ميتة باردة، تماماً كطفلة كليو، التي ترقد صغيرة ميتة رغم محاولة لإنقاذها، ولكن بالنظر إلى أحداث يوم مولدها، فربما تلك الطفلة هي الناجية الوحيدة، ولكن ألفونسو كورون بلقطاته الطويلة الواسعة التي ترسم لنا عالماً حقيقياً واسعاً خلف الشاشة يرمي إلى صورة أشمل وأسمى من فكرة السلاسل المادية والعرقية التي تكبل الناس وتحكم عليهم قبل ولادتهم، فعندما تبكي كليو فإن أصغر أطفال المنزل يواسيها ويمسح بطنها ليزيل الألم كما قد تفعل هي له، والسيدة لا تطردها بل تساعدها وتعطف عليها، وتدعوها للذهاب مع أطفالها إلى الشاطئ في رحلة عائلية، وفي تلك الرحلة تنقذ كليو الأطفال من الغرق وتنتهي تلك الحادثة بكثير من الدموع والحب، ماء شطف الأرضية قد يغرق العالم لكنه يعكس صورة السماء التي تعبرها طائرة تصل البداية بالنهاية، إن الغسيل على السطح تحت الشمس الحارة صعب جداً لكن التمدد هناك تحت السماء والادعاء بالموت مريح ومحرر، إن شخصيات الفيلم تسعى للنظر إلى الأعلى وتدعونا للنظر إلى العالم عبرها ورؤيته كما هو وليس من خلال الأرض والمال والطبقات الاجتماعية والعرقية، لا تأخذوا الرفوف وتتركوا الكتب كما فعل الأب، ولا تدّعوا البطولة وتتصرفوا مع الضعفاء بوضاعة كما فعل فيرمن، الطفل الأهم في الفيلم كان طفلة كليو التي لم تظهر إلا ميتة، وكليو كانت الوحيدة القادرة على الوقوف على ساق واحدة لكن الجميع كانوا مغمضي الأعين فلم يلاحظوها ولم تلحظ هي تميزها، إن هذا العالم مليء بالجمال والمعجزات التي لن نراها حتى نزيل غشاوة البؤس عن أعيننا ونقدر التفاصيل الرقيقة في هذه الحياة القاسية.

سلمى طلاع